تستكشف الإدارة الأمريكية الديمقراطية إمكانية التطبيع بين “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية. وبينما يشي مسار المفاوضات بأن الأمر ليس سهلًا، يسعى البيت الأبيض بقوة لتحقيق مكاسب في السياسة الخارجية ليقوم بتسويقها في الانتخابات الرئاسية. حيث يرى الديمقراطيون أن لا نهاية تلوح في الأفق للحرب الروسية – الأوكرانية، وليس ثمة تقدًّم أوكراني للإحتفاء به، لذا يمكن تحقيق بعض النجاحات الدبلوماسية بتحويل الانتباه إلى المنطقة. ومع إدراك أن المنطقة تتغيّر، وربما على نحو كبير، وأن حقبة جديدة من التعددية القطبية العالمية تقترب، فإن عيون الولايات المتحدة تُركز على العلاقات الإيرانية – السعودية وانعكاستها المُحتملة على “إسرائيل”.
لا توجد علاقات دبلوماسية رسمية بين “إسرائيل” والسعودية، إلا أن العلاقات اتخذت طابعًا مباشرًا أكثر خلال سنوات باراك أوباما حيث اتحدت الدولتان في رفضهما الاتفاق النووي مع إيران والذي انخرطت فيها الإدارة الأمريكية آنذاك. وتشاركت الرياض وتل أبيب في مواجهة مفتوحة ضد طهران وحلفائها في الإقليم. وقد أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال لقاء بُث على قناة “فوكس نيوز” بتاريخ 20/9/2023 بأن مفاوضات التطبيع بين الطرفين مُستمرة.
تتعاون الرياض وتل أبيب في قضايا الأمن والاستخبارات، وحديثًا في الأعمال التجارية والبنية التحتية. منذ عام 2021، أشارت التقارير إلى أن “إسرائيل” والسعودية ناقشا التعاون بشأن الأنظمة الإقليمية المضادة للصواريخ، والتي ستظل ذات صلة مهما كانت نتيجة البرنامج النووي الإيراني. واستثمر السعوديون أيضًا حوالي 2 مليار دولار في صندوق الثروة السيادية لجاريد كوشنر، الذي بدوره استثمر بشكل كبير في الشركات التكنولوجية الإسرائيلية الناشئة. وكشف تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” أن المملكة كانت عميلاً لـ”بيغاسوس”، وهو برنامج تجسس طورته شركة الأسلحة الإلكترونية الإسرائيلية.
يبدو أن الثمن الحقيقي الذي تُريده السعودية للتطبيع في المقام الأول من الولايات المتحدة وليس من إسرائيل”“
وأعلنت قناة “آي 24 نيوز” وقناة “كان” الإسرائيليتين في الأول من آب\أغسطس الماضي عن تعاون بين شركة “سولار إيدج الإسرائيلية” مع شركة “عجلان بروس هولدينج” السعودية، يتم بموجبه إنشاء مشروع للطاقة المتجددة بالسعودية، مشيرةً إلى أن الشركة الإسرائيلية ستقيم شركة محلية في العاصمة الرياض، وستزود المؤسسات والشركات في السعودية بأنظمة إنتاج وتخزين وإدارة الطاقة الشمسية، فضلًا عن خدمات التخطيط للمواقع الشمسية والاستشارات بشأن نقل الكهرباء.
وبينما لم تكن السعودية شريكًا نشطًا في اتفاقيات التطبيع بين “إسرائيل” والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، لم يكن من الممكن أن تتم الاتفاقات من دون موافقة السعودية. بعد الاتفاق، سمحت المملكة لشركات الطيران، بما في ذلك الناقلات الإسرائيلية، بالتحليق فوق أراضيها في رحلات من وإلى الإمارات والبحرين. وكانت الخطوة الإضافية نحو التطبيع هي تخفيف الرياض عام 2022 للقيود المفروضة على الطيران التجاري الإسرائيلي الذي يسافر إلى الصين والهند.
تظل أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن هي الصين وروسيا، وتستهلك الحرب في أوكرانيا قدرًا كبيرًا من تمويل الكونجرس ورأس المال السياسي. ومع ذلك، تحرص الإدارة على إيصال رسالة أن سحب القوات الأمريكية “من الأرض” في المنطقة لا يشير إلى تراجع في نفوذها. علاوة على ذلك، فإن جزءًا من مواجهة التحدي الصيني يتطلب الاستمرار في منافسة نمو نفوذ بكين في الإقليم – والذي ظهر مؤخرًا من خلال اتفاقية التطبيع التي توسطت فيها الصين بين إيران والسعودية.
في هذا السياق، يبدو أن إدارة بايدن تروج لهدفين إقليميين رئيسيين: إعادة ضبط العلاقات مع السعودية، بما في ذلك دفع التطبيع الإسرائيلي السعودي. والإستفادة من خفض التوتر مع إيران.
ومع اقتراب إيران من حالة العتبة النووية، لم يعد من الممكن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) الأصلية بعد ثماني سنوات، وفي الوقت نفسه تعتبر أي صفقة دائمة غير قابلة للتحقق؛ في ضوء ذلك، ترى الإدارة الأمريكية أن أفضل طريق هو التوصل إلى تفاهمات مؤقتة قد تفكك وضع الجمود وتقلل مِن فرص اندلاع حرب إقليمية تؤثر على خطط واشنطن في تركيز قوتها ضد الصين في آسيا.
كمرشح رئاسي، وعد بايدن بجعل السعودية دولة “منبوذة” بسبب اغتيال الكاتب السعودي في صحيفة “واشنطن بوست” جمال خاشقجي. ليصبح ولي العهد السعودي الحاكم المكروه من قبل الديمقراطيين في واشنطن مثل بوتين وترامب. ومع ذلك، خففت الإدارة من نهجها. وأصبحت أكثر استعدادًا لقبول علاقات طبيعية مع الرياض خصوصًا وأن النظام العالمي يتجه نحو التعددية القطبية بشكل متزايد، ما يعني أن واشنطن قد تخسر الرياض في أي وقت.
لذا تعتبر الولايات المتحدة بشكل متزايد التطبيع الإسرائيلي – السعودي “مصلحة أمنية وطنية”. في أيار\مايو، توجّه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى الرياض لإجراء محادثات مع الأمير محمد بن سلمان. وزار وزير الخارجية أنطوني بلينكين السعودية في أوائل شهر حزيران\يونيو، حيث تمت مناقشة التقدم في صفقة إسرائيلية سعودية، ورافقته باربرا ليف، دبلوماسية الشرق الأوسط البارزة في وزارة الخارجية. كما زار بريت ماكغورك، مسؤو ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض، السعودية لإجراء محادثات مع ولي العهد ومسؤولين سعوديين كبار آخرين.
لا يُعتقد أن الصفقة التي أبرمتها السعودية بوساطة صينية مع إيران قد تمنع التطبيع مع “إسرائيل”. لكن، بعد ما وصفت بـ”الحرب بالوكالة” التي دامت عدة سنوات في اليمن، كان تقليص العداء العلني مع إيران ضرورة براغماتية للسعودية لا إشارة إلى تحول جوهري في العلاقات السعودية الإيرانية. في الواقع، استراتيجية الأمير محمد بن سلمان هي عدم التضارب وتوثيق العلاقات مع القوى الكبرى في جميع المجالات بما في ذلك “إسرائيل”.
يواصل السعوديون ربط التطبيع بخطوات ملموسة نحو “سلام إسرائيلي-فلسطيني”. لكن اتفاقات “أبراهام” كسرت هذا الشرط، وأثبتت أن التكنولوجيا الإسرائيلية والاقتصاد كانا فرصة أكثر جاذبية للنخب الخليجية الشابة، ويُعتقد أن النخبة السعودية الشابة ليست بعيدة عن هذا النمط الفكري والسياسي.
ولي العهد لا يريد أن تكون أي صفقة مع إسرائيل “مجرد” امتداد لاتفاقات “أبراهام” بل اتفاقية غير مسبوقة تعكس حجم وأهمية المملكة
على الجانب الآخر، الائتلاف الإسرائيلي المُتطرف الحاكم لا يرى أي ضرورة للتقرّب أو للحوار مع الفلسطينيين. وسيكون من الصعب للغاية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تقديم أي تنازلات حقيقية في ظل وجود الصهيونيين الدينيين في صفوف حكومته مثل سموتريتش وبن غفير. وبالمثل، فإن تجميد المستوطنات أو الالتزام العلني بدولة فلسطينية على طول حدود عام 1967 قد يبدو بعيد الاحتمال.
لذا، يبدو أن الثمن الحقيقي الذي تُريده السعودية للتطبيع في المقام الأول من الولايات المتحدة وليس من “إسرائيل”. وهناك قائمة سعودية طويلة للتطبيع ذات نتائج عميقة على توازن القوى في الشرق الأوسط. حيث تسعى الرياض إلى اتفاقية دفاع غير مسبوقة مع الولايات المتحدة، وإنهاء تجميد مبيعات الأسلحة الأمريكية الذي بدأته إدارة بايدن، وحزمة من الأسلحة الأمريكية المتقدمة بما في ذلك طائرات مقاتلة من طراز “F35″، والموافقة على تطوير برنامج نووي مدني خالٍ من السيطرة الأمريكية أو الدولية. يُعتقد أيضًا أن ولي العهد لا يريد أن تكون أي صفقة مع “إسرائيل” “مجرد” امتداد لاتفاقات “أبراهام” بل اتفاقية غير مسبوقة تعكس حجم وأهمية المملكة.
في حين أن الثمن السعودي للتطبيع واضح، ويشير حجم الزيارات الدبلوماسية الأمريكية وانتظامها على انفتاح من جانب واشنطن للنظر في طلبات رياض. وتدرك إدارة بايدن ضرورة إبرام الاتفاق خلال الولاية الأولى قبل حلول ربيع عام 2024 أي قبل اشتداد المنافسة في انتخابات الرئاسة. كما يدرك الديمقراطيون أيضًا أنه لو فاز الجمهوريون في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، لن يكون لديهم خطوط حمراء في منح ولي العهد السعودي كُل ما يُريده لضمان عدم تآكل نفوذ واشنطن في المنطقة.
أمّا بالنسبة لنتنياهو، فلطالما كان التطبيع مع السعودية أولوية، لكن الآن هُناك تكاليف أمنية وسياسية يجب دفعها في ظل نهاية أي إمكانية لإنشاء تحالف عسكري ضد إيران، لتُصبح القضايا العسكرية والنووية السعودية هي محور النقاش مع تل أبيب.
ومن المرجح أن يغير الإذعان للمطالب السعودية الوضع الاستراتيجي للبلاد في المنطقة. فحزمة الأسلحة التي يطلبها السعوديون وحدهم يمكن أن تغير بشكل جوهري ميزان القوى الإقليمي. وإذا وافقت الولايات المتحدة على الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لـ”إسرائيل” فمن الممكن تصور تعويض “إسرائيل” عن الحزمة السعودية من خلال زيادة مخزون أسلحتها التقليدية فقط. خصوصًا أن مشروع برنامج نووي سعودي مُستقل ومتطور يتعارض مع سياسة “إسرائيل” برفض أي برنامج نووي في المنطقة -سواها- وتعتبر هذا الأمر تهديداً وجودياً لها. لكن تبدو الرياض قد حسمت أمرها في إطلاق برنامجها النووي، سواء وافقت واشنطن أم لا، حيث يمكن للسعوديين الاعتماد على الصين أو باكستان في توفير كل التكنولوجيا اللازمة، ما يعني أنه لا يمكن الجزم باستبعاد موافقة الديمقراطيين والإسرائيليين على الشروط والطلبات السعودية.