مرّت ثلاثة أعوام تقريبًا منذ أن أُعلن تطبيع العلاقات بين نظام “إسرائيل” الصهيوني ونظام المخزن المغربي. لكن ذلك الإعلان لم يكن إلا إبلاغًا عن مرحلةٍ جديدةٍ بين النظامين اللذين ما فتئا يرتبطان بمصالح اقتصادية وجيوستراتيجية أكثر تواشجًا وحساسية.
يُسمّى نظام الحكم في المغرب بـ”المخزن”، وهوُ لغةً المكانُ الذي تؤدّى إليه الضرائب وتُخَزَّنُ فيه الأسلِحَةُ وثروات البلاد ويتبعُ السلطة الحاكمة. أمّا اصطلاحًا فهو منظومةُ سيطرةٍ تستخدمها الطبقة الحاكمة في المغرب -التي تقف على رأسها “دار المخزن” أي القصر الملكي- ولها “قاعدةٌ انتاجيةٌ وهيكلٌ اجتماعي”[1] تطورًا منذ ظهور النمط المخزني أيام المرابطين. كما أن جميع الأسر الحاكمة في المغرب منذ ظهور نمط المخزن “بحثت عن مرجعية دينية تحكم باسمها بشكل أو بآخر”.[2]
البدايات
بدأ التحالف بين النظامين بشكل مستتر بتولي الحسن الثاني للحكم عام 1961. فعلى عكس أبيه محمد الخامس -الذي تُحسب له مواقفه المعادية للعنصرية ضد اليهود والرافضة لهجرتهم من البلاد والحامية لهم خلال الحرب العالمية الثانية- أراد الحسن الثاني التخلّص من يهود المغرب في إطار حملته ضد المعارضة اليسارية التي كان كثيرٌ من كوادرها يهودًا، خشيةً من أن يشكّلوا قاعدة للشيوعية في المغرب.[3] فاتفق صاحب المخزن مع “إسرائيل” على تسهيل مهمة الموساد في نقل 80 ألف يهودي مغربي سرًّا إلى فلسطين المحتلة، مقابل حصول المخزن على 50 دولارًا عن كل مهاجر فيما عُرف بعملية “ياخين”.[4]
استعان الحسن الثاني عام 1963 بالنظام الصهيوني لتحقيق أهدافه التوسعية في شمال غرب أفريقيا. فبعد فشل مفاوضات ترسيم الحدود بين الجزائر المستقلة حديثًا والمملكة المغربية، وصل رئيس الموساد الإسرائيلي مائير عاميت ونائبه يعقوب كاروز إلى المغرب في شهر نيسان/أبريل من نفس العام واجتمعا مع الحسن الثاني وحاشيته في دار المخزن في مراكش واتفقوا على تقديم “إسرائيل” للدعم والاستشارات العسكرية والأمنية والاستراتيجية للمخزن.[5] تُرجم ذلك بعدوانٍ مخزني، بدعم من “إسرائيل” والولايات المتحدة وفرنسا، على الدولة الجزائرية الوليدة التي دعمتها مصر الناصرية وكوبا لصده.
كما تعقب الموساد المناضل اليساري المهدي بن بركة في باريس وأوقعه في قبضة المخابرات المخزنية التي عذبته حتى الموت، قبل أن يُذوِّب عملاء الموساد جثمانه في غابة “سان جيرمان” ويدفنوا ما تبقى منه حيثُ شيّد لاحقًا مبنى مؤسسة لويس فيوتون الفنية في العاصمة الفرنسية باريس، حسبما أورد المحلل العسكري والكاتب رونين بيرغْمَن -الذي عمل محققًا في الشرطة العسكرية الإسرائيلية-[6] في كتابه الشهير “انهض واقتل أوّلًا”.[7] كان التخلّص من بن بركة المقابلَ الذي طلبه الحسن الثاني بعدما سمح للموساد بإقامة محطة عملياتية دائمة في المغرب، والتنصت على كل ما دار في اجتماعات الرؤساء واللجان العسكرية وفي أجنحة الفندق الذي نزلت فيه الوفود المشاركة في القمة العربية التي عقدت في الدار البيضاء في أيلول/سبتمبر 1965.[8]
بدأ التحالف بين النظامين بشكل مستتر بتولي الحسن الثاني للحكم عام 1961. فعلى عكس أبيه محمد الخامس، أراد الحسن الثاني التخلّص من يهود المغرب في إطار حملته ضد المعارضة اليسارية
ومنذ الـ1970ات، باعت “إسرائيل” للمخزن كميات معتبرة من الأسلحة أثناء حربه على الشعب الصحراوي،[9]علاوة على استمرارها في بيع خدماتها العسكرية والتقانية للجيش المخزني الذي شيد بين عامي 1980 و1987 جدارًا بطول 2700 كيلومترًا يحيط بالمناطق الغنية بالمعادن والفوسفات في الصحراء الغربية، تنفيذًا للمشورة التي قدمها الفريق إسحق رابين الذي عمل مستشارًا للقوات المسلحة الملكية المغربية خلال حربها ضد جيش التحرير الشعبي الصحراوي، الذراع المسلح لجبهة البوليساريو.[10]وعلى صعيد آخر، وفَّرَ المخزن أول قناة اتصال سري مباشر بين نظام الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات والنظام الصهيوني؛ إذ أشار وزير الخارجية المصري السابق محمد إبراهيم كامل -الذي استقال من منصبه قبل يوم من توقيع اتفاق كامب ديفيد- إلى أن الحسن الثاني رتب “عدة لقاءات سرية بين حسن التهامي [مستشار السادات] وموشيه دايان في قصره في شهر سبتمبر/أيلول 1977 وبعده.”[11]
إشهار حتى مطلع الألفية
أسدى اتفاق أوسلو خدمةً جليلةً للمخزن ودعايته، لا يزال مفعولها ساريًا إلى يومنا هذا،إذ أظهرت للعلن تلك العلاقة التي “ترسَّمَت” بفتح مكتب اتصال إسرائيلي في الرباط وآخر مغربي في تل أبيب أواخر عام 1994، لكن ضغط الجماهير المغربية وغضبها جراء الإجرام الصهيوني في مُستَهَلِّ الانتفاضة الفلسطينية الثانية أدى إلى إغلاق تلك المكاتب عام 2000.[12]
أخذت دار المخزن، بدءًا من العقد الأول للألفية، تسعى في احتراف اللعب بالأدوات الاقتصادية النيوليبرالية وتحويل ثروتها الريعية إلى رأس مال مالي؛ فاعتمد صاحب المخزن محمد السادس استراتيجية اقتصادية لا تكتفي بالسيطرة على الزراعة واحتياطات الفوسفات، بل تهدف لتنويع مصادر الثروة من خلال إنشاء مؤسسات استثمارية وتحفيز كبريات شركات صناعة الطيرانيات والمركبات والتقانات الحديثة على القدوم إلى المغرب بتقديم العمّال والمهرة المغاربة بأجور بخسة في إطار “تأهيل وتطوير الاقتصاد الوطني.”[13]
في عام 2009 أطلق المخزن “الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي”[14] لجلب الشركات الأجنبية، وأتبعه في عام 2014 بـ”مخطط تسريع التنمية الصناعية 2014-2020″[15] لجعل المغرب جزءًا من سلاسل القيمة والإمداد الصناعية، كما سن قانونين[16] في 2020 و2021 تمت بموجبها إعادة تنظيم “القطب المالي للدار البيضاء”[17] وإحداث “صندوق محمد السادس للاستثمار.”[18] وبالتوازي مع ذلك توجه النظام المخزني من جديد نحو حليفه القديم: النظام الصهيوني، فأخذت وفود “رجال الأعمال ونشطاء المجتمع المدني والفنانين والصحافيين” تزداد بين الطرفين،[19] وتمهد للقاءات بين أعضاء في الكنيست ومسؤولين مخزنيين،[20] قبل أن إعلان “عودة” العلاقات بين النظامين.
مصالح بين “سيطرتين”
إذا كان النظام الصهيوني يتباهى بتقانته ومنتجاته لأنها جُرِّبَت بنجاح على أرض فلسطين وشعبها، فإن نظام المخزن يحتاج للتقانة والاستثمارات العسكرية والمدنية لإحكام سيطرته على الصحراء الغربية واستدرار أكبر الأرباح من ثرواتها الطبيعية. أبرز تلك الثروات: الفوسفات، والأسماك، والطاقات الطبيعية المتجددة، وجملة من المعادن. يُستخدم الفوسفات في مجلات عديدة منها؛ صناعة الأسمدة والبطاريات والالكترونيات والأدوية. وقد شهد العام الماضي تبادلًا لوفود تجارية كبيرة بين الرباط وتل أبيب ركزت على تلك المجالات وتمخض عنها لجنة أعمال تجارية مشتركة.[21]يضاف إلى ذلك اهتمام المخزن بالتقانة الرفيعة الإسرائيلية في مجال المسيرات والذكاء الاصطناعي والسيبرانيات.[22]
أخذت دار المخزن، بدءًا من العقد الأول للألفية، تسعى في احتراف اللعب بالأدوات الاقتصادية النيوليبرالية وتحويل ثروتها الريعية إلى رأس مال مالي
كان المغرب حتى العام الماضي صاحب أكبر احتياطي فوسفات في العالم،[23] وعلى الرغم من أن البيانات الرسمية تقلل من حجم احتياطي تلك المادة في الصحراء الغربية،[24] فإنها بحسب تقارير علمية تشكل قرابة نصف صادرات المغرب الفوسفاتية، فالمُستخرَج من منجم بُوكْراع الصحراوي يمثل14% من الانتاج العالمي.[25][26]
وعليه، وصلت إلى ميناء اسدود 5500 طن مكعب من الفوسفات الصحراوي العام الماضي،[27] وسارعت شركة الكيماويات الإسرائيلية في الاستثمار هناك،[28][29]فصار اعتراف الصهاينة بسلطة المخزن على الصحراء ضرورة لتوسيع نطاق الاستثمارات السياحية والتقانية والتعدينية والسَّمَكية، وضرورة منفعية للمخزن أيضًا.[30]
والصحراء الغربية أكبر مصدر للسردين في العالم، لذلك أصبح المغرب أكبر مُصدريه[31] وأكبر مُصدرٍ للأسماك في أفريقيا والخامس عشر عالمياً،[32]بفضل اليد العاملة الصحراوية والمغربية المُستَغَلَّة في 12 “قرية صيد” أقامها المخزن على الساحل الصحراوي،[33]ويأتي منها 73% من غلة الصيد البحري المغربي.[34]
أمّا مناورات “الأسد الأفريقي” التي شارك فيها عسكريون صهاينة ومن حلف “الناتو” في 2021 وحاكوا فيها ضرب منظومات الدفاع الجوي الجزائرية،[35] والرواية الصهيونية-المخزنية المُختَلَقة عن “حلف إيراني-جزائري”[36] والتحالف الأمني الصهيوني-المخزني[37] فدليلٌ على شراستهما في الدفاع عن مشاريعهما التي ستسقط معهما عندما يقول الشعب المغربي كلمته.
[1]عبد الله العروي “من ديوان السياسة” (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009)، ص109.
[2]محمد القبلي “كرونولوجيا تاريخ المغرب” (الرباط: المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، 2012)، ص29.
[3]للمزيد: مقابلة المناضل المغربي اليهودي سيون أسيدون، قناة التليفزيون العربي على اليوتيوب، برنامج وفي رواية أخرى، 28/02/2020، شوهد في 28/07/2023https://www.youtube.com/watch?v=nyN-qB7HgRc&t=706s
[4]نوعْمِي ميعامي “يهود المغرب-الهجرة والاستيعاب” (القدس: مركز الأبحاث والمعلومات التابع للكنيست، 2005)، ص3.
تعني كلمة “ياخين”יכיןبالعبرية: التمتين أو التثبيت. وورد في التناخ اليهودي أن العمود الأيمن لهيكل سليمان المزعوم كان يحمل اسم ياخين. https://shorturl.at/hJOTV (بالعبرية)
[5]ييجال بن نون “ظل سريا لفترة طويلة: تواصل دائم بين إسرائيل والقصر” أسبوعية تيلكيلTELQUEL، عدد 932، 18/12/2020، ص (40) بالفرنسيةhttps://shorturl.at/beHIV
[6]https://13news.co.il/item/news/politics/ntr-891609/
[7]Ronen Bergmann “Rise and Kill First” (New York: Penguin Random House, 2018) P96.
[8] Ibid, P91. Bergman “Mossad listened in on Arab states’ preparations for Six-Day War”
https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4866702,00.html
[9]عِيرن لارمَن “العلاقات الأمنية بين إسرائيل والمغرب في ضوء التطورات في شمال أفريقيا”، مركز القدس للشؤون الاستراتيجية والأمنية. (بالعبرية) . https://jiss.org.il/he/lerman-relations-between-israel-and-morocco/
[10]ييجال بن نون “ظل سريا لفترة طويلة: تواصل دائم بين إسرائيل والقصر” أسبوعية تيلكيلTELQUEL، عدد 932، 18/12/2020، ص 42. ) بالفرنسية(https://shorturl.at/beHIV
[11]محمد إبراهيم كامل “السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد” (القاهرة: مؤسسة الأهرام للترجمة والنشر، 2002)، ص110.
[13]خطاب محمد السادس في الذكرى 61 لـ “ثورة الملك والشعب” 20/08/2014https://shorturl.at/iprWX
[16]قانون رقم 70.20 وقانون رقم 76.20 “الجريدة الرسمية”، الرباط، المطبعة الرسمية عدد 6951، ص283.https://shorturl.at/yzC02
[17]لمعرفة المزيدhttps://shorturl.at/fDMQR
[18]لمعرفة المزيدhttps://shorturl.at/pqN24 و https://shorturl.at/aCGLX
[19]عينات ليفي “إسرائيل والمغرب: تعاونٌ له جذور” (رامات جان: المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية “ميتفيم” 2018)، ص12-13.)بالعبرية).https://shorturl.at/vDI35
[20]تقرير النشاطات الدولية للكنيست العشرون 2015-2019، ص23 و30.)بالعبرية).https://shorturl.at/gCLPS
[21]للمزيد https://shorturl.at/csWXYو https://shorturl.at/nEFKX و https://shorturl.at/FL013
[22]وكالة المغرب العربي للأنباء https://shorturl.at/sKOV0
[23]تُقدَّر احتياطات المغرب من الفوسفات الصخري بحوالي 50 مليار طن مكعب، وهو ما كان يُشكل 70% من احتياطي الفوسفات العالمي الذي كان يقدر بـ 71 مليار طن مكعب. لكن الاكتشاف الضخم الذي أعلنت عنه الشركة البريطانية النرويجية Norge Mining في 2022 في النرويج بحجم 70 مليار طن مكعب غَيَّر الترتيب، دون أن يقلل من أهمية وضع المغرب والصحراء الغربية عالميًا. لذا يحتاج المخزن للشركات الإسرائيلية التي لا تنقصها الخبرة في هذا المجال مي تضاعف معدلات الاستخراج قبل أن يبدئ استخرج الفوسفات النرويجي. https://shorturl.at/fmpD8
[24]تقدره شركة Phosboucraa التابعة لـ “المكتب الشريف للفوسفاط” OCP بـ 2% فقط. https://www.phosboucraa.ma/en/Who-we-are
[25]مرصد الأرض، الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء “ناسا” NASA . https://shorturl.at/brLP0
[26]تشكل حصة المغرب من صادرات الفوسفات العالمية 31% وفق آخر بيانات “مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط” OCP وهي شركة مملوكة للمخزن. https://www.ocpgroup.ma/ar/industrial-operations
[27]تقرير للبنك الدولي 2021 https://shorturl.at/abzRU(بالإنجليزية).
[28] تقرير “حالة الموارد السمكية وتربية الأحياء المائية في العالم”، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، روما 2022، ص 14. https://www.fao.org/3/cc0461ar/cc0461ar.pdf
[29]موقع قطاع الصيد البحري، وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات المغربية https://shorturl.at/GIRZ6
[30] مرصد الموارد الطبيعية للصحراء الغربية، WSRW بروكسل 11 أيار/مايو 2023. https://wsrw.org/en/news/the-fishing-industry(بالإنجليزية).
[31] تقرير مرصد الموارد الطبيعية للصحراء الغربية، WSRW عن صادرات المغرب من فوسفات الصحراء الغربية عام 2022،بروكسل نيسان/أبريل 2023، ص7. https://shorturl.at/AO079 (بالإنجليزية).
[32]تحتاج هذه الشركة لاستيراد مزيد من الفوسفات لإنتاج حمض الفوسفوريك الغذائي الذي تعتبر واحدة من أكبر مصدريه عالميا بعد “المكتب الشريف”.https://shorturl.at/rzEJV
[34] للمزيد: مقابلة محمد بن حمو رئيس المركز المغربي للدراسات الاستراتيجية، قناة هسبريس بالفرنسية على يوتيوب بتاريخ 18/07/2023. شوهد في 28/07/2023. https://www.youtube.com/watch?v=zSkpxj5kank&t=119s
[35]تحليل شبكة الدفاع والتسليح العربية لمناورات “الأسد الأفريقي 2021” https://defense-arab.com/vb/threads/163882/
[37]يانيف كوبوفيتش “جانتس يوقع اتفاق تعاون أمني بين إسرائيل والمغرب”، جريدة هآرتس، 24/11/2021https://shorturl.at/abdE7(بالعبرية).