هذا الشهر تكون قد مرّت ثلاثة أعوام على “اتفاقية أبراهام” وثلاثون عامًا على اتفاقية أوسلو. دشّنت الاتفاقيتان مرحلتين جديدتين في الانهزام العربي الطوعي أمام كيان العدو. وبالرغم من أن الاتفاقيتين قد نبعتا بالأساس من النوايا الانهزامية لمن جلس مع العدو ووقّع، إلا أنهما كانا كذلك نتيجة لوضع إقليمي مهترئ مكّن للهزيمة الطوعية إن جاز التعبير.
لنقرأ الوضع الإقليمي الذي جعل أوسلو ممكنة، نعود قبلها بسنتين إلى مؤتمر مدريد للسلام؛ صيغة مدريد اختلفت عن صيغة أوسلو ولا شك أن الأسهل لمن أرادوا الهزيمة أن ينهزموا فرادى، كما فعل عرفات في أوسلو، في مقابل مؤتمر مدريد الذي حالت ظروف كثيرة، من بينها حضور سوريا ممثلة بوزير خارجيتها آنئذ فاروق الشرع وتنديده من على المنصة بالإجرام الصهيوني، من أن يصبح إعلان انهزام علني.
ولكن مؤتمر مدريد شكّل أوّل إعلان عام أن النظام الرسمي العربي قد بدأ يسير في طريق جديدة أصبح فيها من كان يفاوض سرًّا يجلس الآن مع العدو علنًا، ومن اختار طريق المواجهة ينجرّ هو الآخر لطاولة المفاوضات ويسعى في تحسين شروطها أو تعطيلها بدلًا من أن يسعى في غلق هذا الباب تمامًا.
وكان الاتحاد السوفياتي يحضر في إطلالة دولية أخيرة له: لسنا بحاجة للتذكرة باختلال التوازن الذي أصاب العالم بعد ذلك وكيف خسرت المقاومة الفلسطينية داعمًا لوجستيًا وسياسيًا (وإن اتفقنا أن دعمه لم يكن كافيًا) بسقوط “المعسكر الشرقي”، وكيف أن هذا الخلل قد أطلق يد من أرادوا الصلح، وقيّد أيادي من كان من شأنهم أن يفرضوا قرار المواجهة.
كانت خسارة العراق وحصاره وعزل نظام صدام تعني فقدان ما كان يعرف بمعسكر “الرفض” أحد داعميه الرئيسيين، خاصة وقد تزامن ذلك مع إنهاء تجربة اليمن الجنوبي
وفي نفس الوقت كان ثمة ترتيبات إقليمية جديدة (لا تنفصل بدورها عن نهاية الحرب الباردة وإن كنّا لا نستطيع تفسير جميع أسبابها بالنظر فقط إلى انهيار المعسكر الشيوعي) يرتبط بظروف حرب أمريكا الأولى على العراق. وبغض النظر عن أي موقف أخلاقي أو سياسي من أنظمة الخليج أو من نظام صدام حسين، فإنّ الفصائل الفلسطينية قد خسرت بهذه الحرب دعم المعسكرين.
من ناحية، أدّى موقف منظمة التحرير الرسمي الداعم لصدام إلى تقليص الدعم المالي من دول الخليج وبالذات من دولة الكويت التي كانت أحد أكبر الداعمين الماليين للفصائل المختلفة. لا نقول إن عرفات قد اضطره ضيق التمويل إلى سلوك طريق المفاوضات، فقنواته السرية مع الأمريكيين كانت قد بدأت منذ نهاية الستينيات[1] والتسوية السلمية كانت مطروحة لديه علنا منذ برنامج النقاط العشر في 1974.
ولكن ضيق التمويل قد وضع منظمة التحرير، والفصائل التي تدور في فلكها، والهيئات الاجتماعية المرتبطة بها، في جو يجعل تبرير الانهزام أسهل– ثم في مرحلة أخرى جعلت هذه الهيئات الاجتماعية أكثر اعتمادًا على تمويل الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الأمريكية وما بات يعرف بـ”المجتمع الدولي”.
ومن ناحية أخرى، كانت خسارة العراق وحصاره وعزل نظام صدام تعني فقدان ما كان يعرف بمعسكر “الرفض” أحد داعميه الرئيسيين، خاصة وقد تزامن ذلك مع إنهاء تجربة اليمن الجنوبي (التي كانت بشكل من الأشكال حاضنة الثورة وتنظيماتها) ومع تحولات طالت نظام القذافي (سأفرد لها مجالًا أوسع في القسم المقبل).
لم تؤد هذه التغيرات إلى زيادة اختلال التوازنات ما بين المعسكر العرفاتي ومعسكر “الرفض” فحسب. فإلى جانب جبهة الرفض، كان صدام والقذافي يدعمان شبكة واسعة من الذين تبنوا أشكالًا مختلفة من “العمليات الخارجية”. لم يكن أعضاء هذه الشبكة سواء، فمنهم من تبنّى هذا النهج إيمانًا بالثورة – مثل كارلوس ومن تبقى من تنظيم وديع حداد – ومنهم من كانوا مرتزقة يمارسون الإرهاب لحساب من يدفع، مثل صبري البنا-أبو نضال. ولسنا هنا بصدد التقييم الأخلاقي أو السياسي والاستراتيجي لهذا الفصل من تاريخ الثورة الفلسطينية، ولكننا نقول، بكل واقعية، إن وجود هذه الشبكة، وارتباطها بصدام الذي كان قد بدأ في تصوير نفسه ركنًا لنهج “الرفض”، كان من شأنه أن يرهب من تسوّل له نفسه، من التنظيمات والأنظمة، أن يسير علنًا في طريق التسوية السلمية مع العدو.
يمكن أن يقال الكثير عن احتواء الإمبريالية لنظام صدام وتوريطها له في حربه مع إيران (وعن الخدمات التي أداها للإمبريالية بهذه الحرب) ثم في غزو الكويت، ولكن في المقابل فإن وجود هذا النظام بقوته العسكرية وبأذرعه الممتدة من خلال تنظيمات ثورية وإرهابية، كان من شأنه أن يجعل المعسكر الانهزامي يفكّر ألف مرة قبل أن يجاهر بتطبيعه.
وسواء كان التمهيد للتسوية من بين أهداف حرب أمريكا الأولى على العراق (وليس ذلك بمستبعد إذا أخذنا في الاعتبار أن الخارجية الأمريكية هي التي أغرت صدام بغزو الكويت أو على الأقل أوهمته أنها تعطيه الضوء الأخضر) أم لا (ربما علينا أن ننتظر إلى أن تفرج الولايات المتحدة عن وثائق 1990 و1991 السرية لنعرف) فإن ما حدث للعراق مهد في النهاية الطريق لمؤتمر مدريد الذي انعقد في نفس عام الحرب على العراق، ثم لاتفاقية أوسلو، إذ لم يعد عرفات خائفًا من عناصر مارقة قد تقطع عليه هذا الطريق أو تجعله يدفع ثمنه غاليًا.
الطريق إلى “السلام الإبراهيمي”
إذا كانت أوسلو قد انعقدت في عالم حوصر فيه نظام صدام، فإن اتفاقية أبراهام أبرمت في عالم لم يعد فيه هذا النظام موجودًا.
كما تمّت هذه الاتفاقات في عالم لم يعد فيه معمر القذافي موجودًا.
مرة أخرى، لا أسعى هنا إلى تقديم تقييم أخلاقي، أو حتى تحليل سياسي شامل، للقذافي ونظامه والدور الذي لعبه. ولكن القراءة الواقعية-الموضوعية للتاريخ تخبرنا أن نظام القذافي بالذات كان ممولًا للعمل العنفي الذي كان يهدف إلى ردع سائر العرب من السير في طريق المفاوضات والصلح: عملية فيينا الأسطورية (حين اختطفت مجموعة من الفدائيين التابعين لتنظيمات فلسطينية مختلفة وزراء النفط المجتمعين في مؤتمر “أوبك”)، التي وقعت بعد أيام من مؤتمر جنيف للسلام والتي كان القذافي أحد مدبريها ومموليها بحسب رواية كارلوس للأحداث، تمخّضت فيما تمخّضت عن بيان ينذر الدول العربية من السير في هذا الطريق—ومع كل الغموض الذي يكتنف تاريخ هذه العملية فإن شهادة كارلوس وتحليل ليلى خالد يذهبان إلى أن أحد أهداف العملية كانت تحذير النظام الإقليمي العربي من السير في خط التسوية. من بعد ذلك ستقول الروايات (التي تتضارب فيها الحقائق بالخيالات الأقرب لأفلام الإثارة) عن كارلوس إنه ظل يتلقى الأموال من القذافي ليخطط لقتل السادات قبل أن يفاجئه “الجهاديون” ويسبقوه (هذا من دون أن نغفل أن العملية ربما أراد منها القذافي التأثير في مصير “أوبك” خاصة وقد كان القذافي يجيد استخدام النفط في شده وجذبه مع دول الغرب).
ثم إن قرأنا تاريخ الإمبريالية مع نظام القذافي منذ التسعينيات وحتى مقتل هذا الأخير نرى تقليمًا متواصلًا لأظافر القذافي: في نفس عام حرب أمريكا الأولى على العراق بدأت دول الغرب في تحريك قضية لوكيربي ضد ليبيا وفي العام التالي فرضت العقوبات الدولية عليها. ليست صدفة كذلك أن عملية السلام في أيرلندا الشمالية قد انطلقت في ذلك الوقت: إذ فقدت المقاومة الأيرلندية للدعم المالي السخي الذي كان القذافي يتيحه، وحُرمت أي جبهات رفض انشقت أو قد تنشق عن الجيش الجمهوري الأيرلندي رافضة عملية السلام، من ممول وراع محتمل. وبالعكس أدت تهدئة الجبهة الأيرلندية إلى حرمان القذافي من هذه الورقة وبالتالي تقليم أحد أظفاره الممتدة في عمق أوروبا.
كانت مسيرة تقليم أظافر القذافي تسير على ما يرام؛ وربما يكون هذا الأخير قد اتعظ بما حدث لشريكه القديم في جبهة الرفض، ففي نفس الشهر الذي سقطت فيه بغداد، في أبريل-نيسان 2003 وافق القذافي على دفع تعويضات لضحايا حادث لوكيربي ثم في نفس الشهر الذي أسر فيه الأمريكيون صدام، في ديسمبر-كانون الأول من نفس العام أعلن القذافي نيته تفكيك البرنامج النووي العسكري الليبي. في العام التالي، بدأ تقارب دبلوماسي غير مسبوق ما بين ليبيا ودول الغرب، وفي العام الذي يليه رفعت الولايات المتحدة “العقوبات الاقتصادية” عن ليبيا وعادت شركات النفط الأمريكية للعمل هناك. ثم في 2006 عادت العلاقات الدبلوماسية كاملةً مع أمريكا.
لا يمكننا الجزم بما قد يكون عليه موقف القذافي من الغرب ومن التدخل الأمريكي في المنطقة ومن اتفاقية أبراهام لو كتب له البقاء. وفي المسألة الفلسطينية نفسها وحتى في ما يتعلق بالتسوية مع العدو كان القذافي يبدي مواقف ملتبسة: نذكر كيف خرج علينا بمشروع “إسراطين” في عام 2000 وإن كنا لا ندري إن كان يعني بها التعايش مع إسرائيل، أم كان يعني أن فلسطين الحرة ستستوعب بقايا المستوطنين—وهو مشروع المقاومة الفلسطينية على الأقل منذ الستينيات، وإذا كان الأمر كذلك فما الجديد في ما قدّم ولماذا أعطاه اسمًا كوميديًا مثل “إسراطين”؟
لا يمكننا الحديث عن الوضع الإقليمي الذي جعل “السلام الإبراهيمي” ممكنًا من دون أن نأخذ في عين الاعتبار الأزمة السورية والعزلة التي فرضت على النظام
لكن الذي حدث، ومن دون إنكار مسؤولية القذافي عمّا حدث في عام 2011 في بلاده، هو أن قوى الاستعمار قرّرت أن تتخلّص منه. لا نقول، مرة أخرى، بأن هدفهم كان تمهيد الطريق لمرحلة جديدة من التسوية السلمية (تبقى الاعتبارات الجيوستراتيجية الأمريكية التقليدية، من النفط[2] والقواعد العسكرية، يضاف إليها اعتبارات جديدة مرتبطة بعالم ما بعد 2011 مثل التحكم في حركة الهجرة و واستباق الانتفاضات العربية لكي لا تسير في اتجاه معاد لمصالح الاستعمار كما أرادت الشعوب، هي الأساس)، ولكن لا شك أن الذين يسيرون في طريق التسوية يسيرون بأمان أكبر في غياب لاعب لا يؤمن رد فعله كالقذافي.
وضعنا الراهن
أمّا النظام السوري، فقد استنزف في حرب أهلية وحوصر إقليميًا؛ ولا يمكننا الحديث عن الوضع الإقليمي الذي جعل “السلام الإبراهيمي” ممكنًا من دون أن نأخذ في عين الاعتبار الأزمة السورية والعزلة التي فرضت على النظام السوري بحيث لم يعد يستطيع أن ينتقد ولو من باب الخطابة، هذا الاتفاق—خاصة وقد أصبح آل زايد إحدى نوافذه القليلة على المنطقة. ولكن تبعات هذه الأزمة تمتد على الجانب الآخر أيضًا: إذ جيشت “القوى الجهادية” (التي كانت تشكل هي الأخرى رادعًا لمن يسير في خط التسوية ولنا في السادات عبرة) و”الرأي العام السني” في هذه المعركة ليصبح النظام السوري والجمهورية الإسلامية في إيران هما العدو—بما ينعكس ولاءً للقوى التي تناصب هذا المحور العداء وعلى رأسها قوى الخليج “السنية”. مما أدى إلى وضع مختل نستشعر فيه (مجرد استشعار من بعض التعليقات هنا وهناك) أن هذا الرأي العام تزعجه المصالحة مع بشار الأسد بأكثر مما تزعجه بشائر التطبيع مع العدو (يبقى هذا مجرد حدس ولن يظهر رد فعل القوى السنية والجهادية بشكل واضح إلا من بعد أن تتكشف الخطوات التالية من مسيرة التطبيع؛ خاصة وهذا التيار يصعب التنبؤ بخطوته القادمة).
وبعد، فإن الهدف من هذا التحليل ليس جعل الظروف الموضوعية قدرًا: الإمبريالية تدخلت في الظروف وأعادت تشكيلها، وانتفاضات 2011 كان يمكن أن تتحول إلى مد ثوري معاد للإمبريالية لولا تدخلت أمريكا لاستباقها[3] ؛ وقد مكّن لها أنّا لم نحسن قراءة الظروف الموضوعية وقتها. والذين ساروا في مسيرة التسوية لم يكتفوا بانتظار ريح مواتية: هذه المسيرة بدأت في السبعينيات في جو لم يكن مواتيًا وواجه أنصارها رياح الرفض وظل هذا المعسكر يتحين الظروف إلى أن استشعر تغير الرياح في مطلع التسعينيات.
والساحة الآن مليئة بالتيارات وبالفاعلين، أنظمةً وتنظيمات، صغارًا وكبارًا، وبتوازنات دولية متغيرة، وكل هذه فرص لإعادة تهيئة الظروف إذا قرأناها جيدًا.
[1] بدأت اتصالات عرفات مع الأمريكيين، من خلال قناة أبو حسن سلامة-السي آي إيه، في عام 1969. وفي السبعينيات كان عرفات بالفعل قد بدأ يمهد لمسار التسوية فكان برنامج النقاط العشر في 1974 وكانت خطبته الشهيرة في الأمم المتحدة وحديثه عن “بندقية الثائر وغصن الزيتون”.
[2]بالرغم من أن الشركات الأمريكية كانت قد عادت إلى ليبيا من بعد رفع الحظر في 2004، بينما كانت شركات أوروبية أخرى حاضرة حتى في فترة الحصار الأمريكي، فإن القذافي اشتهر بفرضه شروطًا لمصلحة ليبيا ضاقت منها شركات النفط. كما قيل إنه هدّد بطرد الشركات الأمريكية في اجتماع مع رئيس إحدى هذه الشركات في عام 2008
[3]ينظر، على سبيل المثال، القليل الذي باح به باراك أوباما في مذكراته “أرض موعودة”.