لا يخلو أي مؤتمر أو توثيق كرونولوجي للتاريخ الفلسطيني من نقطة مفصلية تعبّر عن الهزيمة والاستسلام. غالبًا ما يُعرَض هذا الجانب كانقطاع بين ما كان قبله وما جاء بعده. في تاريخ الدول والنظم السياسية، تظلّ هذه اللحظات الفارقة مهمة، لكنها تُخفي الكثير من العوامل الاستمرارية بين الفترات الزمنية المختلفة.
إدوارد سعيد، في تعليقه على اتفاقية أوسلو، وصفها بأنها تشبه اتفاقية فيرساي. قد يكون سعيد محقًا، ليس فقط في تسليط الضوء على الهزيمة والاستسلام كنقطة مشتركة بين الاتفاقيتين، ولكن أيضًا في التأكيد على التحولات التاريخية التي أعقبت جهود الألمان لتجاوز تأثيرات فيرساي. بنفس الطريقة، يمكن النظر إلى تطورات القضية الفلسطينية عقب اتفاقية أوسلو، وما تبعها من مقاومة وتحركات، كجزء من التحولات التاريخية التي لا يُمكن فهمها بالاكتفاء بنظرة سطحية للأحداث، أي في طرح أوسلو كنقطة نهاية.
بينما وضع الاتفاق التاريخي بين ألمانيا والحلفاء حدًا للحرب العالمية الأولى، كان الاتفاق نفسه أيضاً سببًا رئيسيًا في استمرار الجهود الألمانية للتخلّص من تبعات فيرساي وآثارها الاقتصادية والسياسية، بما فيها الشعور الألماني بالإهانة. وبالمثل في فلسطين، منذ اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقيات أوسلو، كان السعي لتجاوزها موجودًا في استمرار المقاومة خلال التسعينات، وازدهارها في ذروة الانتفاضة الثانية، ونجاحها في تحرير قطاع غزة، ومن ثم في بناء هيكل عسكري منظم هناك يمتلك القدرة على الاستيراد والتطوير الذاتي للأسلحة وامكانيات وقابلية المقاومة. وقد كان للانتفاضة الثانية وارهاقها للبنية العسكرية والأمنية الإسرائيلية دور أيضًا في نجاعة المقاومة في لبنان على تحقيق انتصار رادع بمقابل دولة الاحتلال ساهم في بناء فضاء سياسي لا يمتلك الإسرائيلي فيه حرية الحركة العسكرية مثل لبنان، بل ساهم في حماية جهود المقاومة اللبنانية في تطوير بنائها العسكري لمرحلة تجاوزت فيها قدراتها بالعام ٢٠٠٦ لتشكل هاجسًا استراتيجيًا جادًا لدولة الاحتلال ونخبه الأمنية. لا أريد المبالغة ولكن أليس التردد الإسرائيلي في إزالة خيمة علي الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين أيضًا نتاج مقاومة الاحتلال عقب أوسلو.
ولكن، ولربما الأهم، ألم تكن المقاومة في الثمانينيات والتسعينيات واستمراريتها أبعد من مجرد رفض لاتفاق سياسي اسمه أوسلو، أي ألم تكن أيضًا استمرارًا للطاقة الثورية التي وجدت تعبيرًا كثيفًا لها مع انطلاق الانتفاضة الأولى ومع انطلاق الثورة الفلسطينية الحديثة، ومع انطلاق حركات مقاومة عربية وإسلامية في المنطقة جميعها. وهنا تكمن المفارقة الأساسية التي صاحبت أوسلو: إن الاهتمام الفلسطيني الشديد بها يعد دليلًا على رفض تاريخي لها، رفض لما تضمنته من إهانة للعقل القائل إن الأمل معدم. هذا الرفض لم يقتصر على النقاشات في قاعات المؤتمرات، بل ظهر في مراحل متعددة من خلال ممارسات سياسية متعددة.
من المهم، رغم أهمية أوسلو كمفصل تاريخي، ألّا نقفز عن تاريخ أعمق ومتواصل، فماذا نقول لمروان زلوم الذي عاد مع منظمة التحرير ليقاتل بالانتفاضة الثانية، أو ماذا نقول لأبو علي مصطفى الذي اغتيل لأنه قاد وساهم في إعادة إحياء ذراع عسكري في المقاومة الفلسطينية
أوسلو، كاتفاق، يتضمن قبولًا رمزيًا من منظمة التحرير بدولة إسرائيل، ويتضمّن تنازلًا عن بقية فلسطين يعبّر عن حالة فئة صغيرة من النخب أراد أن توجد لنفسها مكانة سياسية في ظل الخوف من تغييبها. ولكن نغفل أن بالوقت ذاته كان القبول الرمزي هذا يصاحبه عمليات استشهادية في وسط المستعمرات الأولى في فلسطين المحتلة، وأن ياسر عرفات نفسه تجاوز أوسلو بالانتفاضة الثانية.
من المهم، رغم أهمية أوسلو كمفصل تاريخي، ألّا نقفز عن تاريخ أعمق ومتواصل، فماذا نقول لمروان زلوم الذي عاد مع منظمة التحرير ليقاتل بالانتفاضة الثانية، أو ماذا نقول لأبو علي مصطفى الذي اغتيل لأنه قاد وساهم في إعادة إحياء ذراع عسكري في المقاومة الفلسطينية. من المهم أن نملأ تاريخنا بالاستمراريات التي تربط بين الانقطاعات وتتجاوزها، وبأن لا نرى أي نقطة كحالة انقطاع تام مع ما سبقها مهما كان حجمها. إن من المهم أن نعود للوراء ومن ثم أن نبني نسقًا مع الحقب وانقطاعاتها وادعاءاتها السياسية الكبرى.
يُحيل آخرون أهمية لأوسلو في إعادة انتاج المجتمع الفلسطيني وتقسيماته الطبقية، ويذكر آخرون كيف ساهم في نشأة اقتصاد نيو-ليبرالي يُحيل للاستهلاك والتنافس والفردانية. بينما يقدّم آخرون أوسلو على أنها نشأة لكيان فلسطيني دولاتي مرتبط بدولة الاحتلال ومقدّمًا خدمات أمنية وفضائية يكمن أهمها أنه يُشغل الفلسطينيين بأنفسهم. وجميعها دقيقة، دقيقة في تشخصيها السياسي والاقتصادي بأن أوسلو تمثّل كارثة ودمارًا وتهاو ونشأة بنى تعاون مع الاستعمار قائمة بالوقت ذاته على ادعائها امتلاك مشروع وطني. ولكن هذا الانشغال في تحديد كم ونوع الدمار يجعلنا ننظر للواقع من خلال منظار ضيق، منظار الأحلام المحطمة والتوقعات غير المحققة والرغبات السياسية المكبوتة.
استطاع، مثلًا، قطاع غزة توسعة نطاق عمل المقاومة في العشرين عامًا السابقة، بل بناء بنية “تطوير وبحث” له وتنظيم، وحتى اقتصاد سياسي يرافقه، بينما غرقت الضفة في تعميق أوصال الاستيطان والتعاون الأمني والاقتصادي مع العدو بعد اندثار تيار المقاومة فيها. ولأكثر من عقد من الزمن بدا وأن الانتفاضة الثانية حطمت الحلم الفلسطيني وقابلية المقاومة في الضفة الغربية. ولكن لأسباب مختلفة عادت روح تلك المقاومة وعادت روح تجاوز هذا الواقع السياسي بعمليات سميت بالفردية، وبهبات متتالية، وبأطوار وأشكال مستجدة من التنظيم، وصولًا إلى نشأة الفضاءات السيادية في جنين ومن ثم محاولة لم تصل مداها الكلي لإنشاء فضاء سيادي آخر في نابلس.
ولم تكن عملية الهروب من سجن جلبوع بعيدة عن هذا التجاوز، تجاوز جغرافيا الركام الرمزي والمادي عقب الانتفاضة الثانية. فاللسجون تاريخ، والتاريخ الذي يُطغى على تشكيل بنيتها الهندسية هو تاريخ الهروب منها. لذلك، لم يكن سجن جلبوع إلا تجسيدًا لجميع العِبر والدروس التي استخلصها الكيان على مدى أكثر من 100 عام من المواجهات داخل السجون. بل يحمل في طياته، كبنية هندسية وتقنية، جهود البنية الأمنية الإسرائيلية بعد الانتفاضة الثانية لبناء سجن ليس فقط قادرًا على “عقاب” و”عزل” لجسد الأسير، ولكن أيضًا على إخفائه تمامًا عن العالم الخارجي لمنع استمرار العمل التنظيمي من داخل السجن. بني سجن جلبوع في خضم الانتفاضة الثانية كنموذج لسجن جديد يستطيع إفشال كل عمليات الهروب. بمعنى آخر، سجن جلبوع هو إجابة هندسية على سؤال كان محوريًا في الانتفاضة الثانية عند الإسرائيلي: كيف نعزل من كان يجب قتلهم؟ وكيف نمنع استمرارية العمل التنظيمي من داخل السجن؟ وكيف نستفيد من الدروس المستخلصة من كل عمليات الهروب السابقة؟
لأسباب مختلفة عادت روح تلك المقاومة وعادت روح تجاوز هذا الواقع السياسي بعمليات سميت بالفردية، وبهبات متتالية، وبأطوار وأشكال مستجدة من التنظيم، وصولًا إلى نشأة الفضاءات السيادية في جنين ومن ثم محاولة لم تصل مداها الكلي لإنشاء فضاء سيادي آخر في نابلس
الهروب من سجن جلبوع، تحديدًا، هو تجاوز واضح لما أنتجته العقلية الأمنية الإسرائيلية في خضم الانتفاضة الثانية. ولكن جلبوع وجنين ونابلس والعمليات المختلفة والهبات كلها أيضًا تشير إلى حقيقة أن هذا التجاوز يظهر على مستويات متعددة، كما هو واضح في تشكيل بنى تنظيمية اجتماعية هجينة ومُتفرعة، والتي لعبت دورًا مركزيًا في الهبات الكبرى مثل هبة الأسباط ورمضان والعمليات الفردية وصولًا للفضاءات السيادية في شمال الضفة الغربية.
يمنحنا سجن جلبوع مجازًا آخر مختلفًا عن مجاز فيرساي، مجاز يتجلى في التغلب على “الخزنة”، كما يُطلق الصهاينة على سجن جلبوع. هذا التجاوز التاريخي يُحاصره فقط منهج العجز والسكون والقبول، بل والتعاون الأمني الذي تعمّق بعد نهاية الانتفاضة الثانية على مستوى النخب الحاكمة التي قرّرت تحويل أوسلو وتأكيد عنصر الهزيمة فيها.