تمهيد
نظرَ الباحثون والمؤرّخون إلى الجوانبِ القمعيّة والاضطهاديّة المكثّفة التي تميّزت بها فترة الحكم العسكريّ منذُ عام 1948، حتى ستينيّات القرن الماضي، في عام 1966 ألغي الحكم العسكريّ بشكلٍ فعليّ مع بعضِ الاستثناءات التي رُفعت نهائيًا حتى عام 1968، وتخلّلت هذهِ الفترة ممارسات وتقييدات عديدة على الحركة والتنقّل من خلال بناء ثلاثة إداريّات عسكريّة مغلقة في منطقةِ الشمال، وهي الجليل، المركز، وما عُرف آنذاك بمنطقةِ المثلّث الصغير وهي واقعة على حدودِ المملكة الأردنيّة وفيها ما يقارب 30 قرية. وأخيرًا المنطقة الجنوبيّة، أي النقب عمومًا. كما شملت قمعًا مضاعفًا في الاعتقالات الإداريّة والمحاكم العسكريّة، ومحاذير كثيرة متعلّقة بحريّة العمل السياسيّة والتنظيم، ولا ننسى استهداف طرق معاش الفلسطينيّ في الفلاحة، عبر استهدافٍ منظّم لقدرةِ الفلسطينيين على الوصول بحريّة إلى المياه، وإهمال السلطات المحليّة والبنى التحتيّة، وفقًا لأهمّ الباحثين، بدءًا من صبري جريس وإيليا زريق وأحمد سعدي.
ولكن، في الوقتِ نفسهِ، قلّت أعداد الكتب والدراسات في مجالِ المقاومة الفلسطينيّة آنذاك واحتجاجات فئات شعبيّة سياسيّة، سواء منخرطة في الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ أو حركات ومجموعات قوميّة مثل “حركة الأرض”. لا دراسات اهتمّت بشكلٍ مركّز في أحداثٍ وأيّام مفصليّة مرّت على الشعب الفلسطينيّ القابع تحت الحكم العسكريّ في الأراضي المحتلّة عام 1948 (ومن المهمّ ذكر أن الفلسطينيين، سواء في الضفّة الغربيّة أو قطاع غزّة أو مخيّمات اللجوء أيضًا، لم يتم بعدُ سردُ روايتهم في تلك الفترة المحتدمة وتاريخها وظروف معيشتها، مع التأكيد على أننا لا نُقارن بينَ دولٍ عربيّة ودولة الاحتلال). إذ لدينا، على سبيلِ المثال، رواية موحّدة حولَ مسارات المقاومة والتنظيم السياسيّ المحلي في القرى والبلدات العربيّة، كعملٍ بحثيّ يعتمد على المقابلات الشفويّة، علمًا أن مجلّدًا أرشيفيًّا كاملًا يتحدّث عن طرق عمل الشيوعيين وتنظيمهم وانتشارهم المكثّف والمتواصل رغمًا عن الحكم العسكريّ، ما زالَ محظورًا، وهي في غالبيّتها مستندات أجهزة الأمن المركزيّة الإسرائيليّة، ولكن، مع ذلك، قد تجد مستندات مختلفة متاحة، أضف إلى أرشيف جريدة “الاتحاد”، وهذا يعطينا بعضًا من الامكانات المتاحة لكتابة وسرد تاريخ الفلسطينيين ومقاومتهم وتنظيمهم لأنفسهم هادفين إلى إلغاء نظم الرقابة والاضطهاد القوميّ.
لذا، نعتبر هذهِ المقالة، تمهيدًا لمسار بحثيّ واسع مع التنويه على أن هكذا بحث ودراسة هي ليست فرديّة، بل يجب أن تتحوّل إلى عمليّة ومسار جمعيّ يشارك فيهِ الباحثون من كلّ جانب حتى ننجز سرديّة متكاملة تقوم على قراءة واستكشاف هذهِ الفترة، وهذا هو مرادنا النهائيّ. من أجل هذهِ الغاية سأبدأ اليوم في استكشاف انتفاضة الشعب الفلسطينيّ تحت الحكم العسكريّ الاسرائيليّ في لحظاتٍ عدّة، التي تمحورت في النضال ضدّ تخطيطات المستعمِر تهدف لاستكمال الطرد. بالمقابل، من المهمّ الانتباه إلى أن غزّة في الوقت نفسه شهدت احتجاجاتٍ أخرى بذاتِ الأهميّة ضدّ مشروع توطين اللاجئين، أي أن المشروع الصهيونيّ ما زالَ يعمل في كلا المجالين؛ أولًا تخطيط الترانسفير والاحتواء الاستعماريّ ضد من بقي داخل الأرض المحتلّة، والمجال الثاني ضدّ مخيّمات اللجوء بهدفِ توطينهم وبالتالي محو “الفلسطينيّ” بشكلٍ دائم.
اللحظة المفصليّة في عام 1956
“إنّ مجزرة كفر قاسم التي التي أثارت ضمائر كلّ ذوي الضمائر من مختلفِ الشعوب، تشير إلى ما كان يبيّته المستعمرون وأعوانهم للشعبِ فيما لو نجحَ عدوانهم، ولكن عدوانهم انهارَ مشبعًا بالخزي والعار. سياسة مجزرة كفر قاسم تحطّمت على أبواب بورسعيد، إننا الآن لا نواجه لا مجازر كفر قاسم بل نضالًا متعاظمًا للتخلّص من حكّام بلادنا المفلسين المتسولين، للتخلّص من سياستهم التي لم تجرّ على بلادنا سوى الكوراث”. (إميل حبيبي، 1956)
أجمع الباحثون على أنّ عام 1956، هو عام التنازل النهائيّ، على الأقل عملياتيًا آنذاك، عن تخطيطات استكمال التهجير و”الترانسفير” للعربِ الباقين تحت الحكم العسكريّ الإسرائيليّ، وهنا نتساءل ما الحدث الجلل، أو لنقل السيرورات المتشابكة التي فرضت على المؤسسة الاستعماريّة ونخبةِ الحزب الحاكم “ماباي” إبعاد هذا الخيار جانبًا حتى الآن، لنعد أولًا إلى البداية.
بعدما تقرّر تأسيس الحكم العسكريّ، وتثبيته وفرضه على مئات آلاف الفلسطينيين لأهدافٍ متعلّقة بقضايا أمنيّة حدوديّة من منعِ عودة اللاجئين، وخطر الفدائيين، وحظر التواصل في جميعِ أشكالهِ، وشمل ذلك التهريب عبر الحدود، استكمال مشروع مصادرة وسلب “الأراضي المتروكة”، تسريع عمليّة استيعاب المهاجرين المستوطنين اليهود وتسريع بناء المستوطنات، جميع هذهِ الأسباب هي تحتاج العديد من قوانين الطوارئ (1945) التي تتيح حريّة العمل الاستعماريّ الاستيطانيّ، وتبعَ إقرار ذلك مناقشات حولَ مستقبل العرب في الدولة، أي تعريف ما هو الناظم السياسيّ الذي سيحكم قرارات الحكومة في جميعِ المجالات، وفقًا للنقاشات المؤرشفة في اجتماعات الحزب الحاكم آنذاك “ماباي” بقيادةِ دافيد بن جوريون، نجد ميلًا نحو سياسة التهجير والترانسفير باعتبار أن العرب لا يملكون مستقبلًا في هذهِ الدولة، وعند أيّة فرصة ممكنة سنقوم بعمليّات تهجير وطرد وإزاحة، أي في حالِ حدوث حرب وعمليّة عسكريّة وهذا كانَ واضحًا في كتابات مؤرخين وباحثين اسرائيليين أيضًا مثل آدم راز ويائير بويمل.
تعدّدت الأحداث التي تدلّ على وجودِ نيّة واضحة بطردِ الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم واستكمال هدمِ قراهم، ولكن ما استطعنا الوصول إليهِ موثّقًا في الصحفِ وكتابة التاريخ، كما أصبحَ ذكرى شعبيّة، هو محاولة إغراق قرية كفرمندا وإزالتها عن الوجود ضمن مخطّط مشروع المياه القطريّ في عام 1954، وجاء هذا المخطّط ضمن محاولة تطويق وتهويد منطقة البطّوف وقراها وبلداتها مثل عرّابة وسخنين والمغار من خلالِ مصادرة الأراضي الزراعية التي يملكها فلاحين فلسطينيين. وبالتالي المشروع في أساسهِ تدمير المنطقة بأكملها، طرق وأنماط الفلاحين المعيشيّة، وتجفيف منابع رزقهم. وقد بدأت الجهات الوزاريّة والحكوميّة المسؤولة عن إنفاذ المشروع، بتمشيط القرية والأراضي وتقييم الخسائر بهدف التعويض.
في المقابل، أدركَ أهالي القرية أنّه لا مفرّ إلّا عبر مقاومة هذهِ الجهات الحكوميّة المدعومة من الحاكم العسكريّ في مقرّه من شفاعمرو، وبالتالي مع قدوم شهر تشرين الثاني 1954 اتّخذ أهالي القرية موقفًا حاسمًا بعدم السماح بأية عمل أو نشاط لأية جهة مرتبطة بمخطّط مشروع المياه. وتبعَ ذلك تصعيد مع بدايات الشهر التالي، كانون الأول، حيث حضرَت الجهات المخوّلة تقييم ما سيتمّ إغراقهُ وإبادته حتى يتسنى لهم بناء بركةً واسعة تكون بدورها محطّة للمشروع القطريّ الهادف إلى مدّ الجنوب، منطقة النقب، بالمياه – وللدقّة المياه ستصل فقط مستوطنات النقب ومشاريع الدولة الاستعماريّة الاستيطانيّة، أمّا القرى والقبائل العربيّة هناك، حتى يومنا هذا، العديد منها ما زالَ يعاني من أجل الاعتراف بحقوقهم في المياه وجميع الخدمات الأساسيّة الأخرى [1].
عمليًا، مخطّط إبادة وادي البطّوف كما نعرفهُ فلسطينيًا، اعتبر عمودًا أساسيًا في سياسة الدولة بالقضاء على الفلسطينيّ فيزيائيًا. وبعد ذلك بعامين وضعت تخطيطات تهجير واسعة ويبدو أنها شملت مجازر أكثر ومراكز اعتقال وإفراغ أكثر من 30 قرية، كما سيتضح في الوثائق والأرشيف. كما قلنا سابقًا، حينما تسنح الفرصة، ستبدأ فعليًا مرحلة التهجير والإخلاء القسريّ. وفي عام 1956، أعلنَ رئيس الجمهوريّة المصريّة تأميم قناة السويس، التصريح الذي أعادَ لأمم العالم الثالث قدرتها على فرضِ إرادة سياسيّة ضدّ الهيمنة الأوروبيّة على العالم، ما دفع أهمّ إمبراطوريتين في أوروبا آنذاك لشنّ حرب عدوانيّة ضدّ مصر، وبتنسيقٍ وتعاون كامل وتداخل للمصالح قرّرت النخبة الصهيونيّة الانخراط في هذهِ الحرب، ومن أسبابها هو الدعم السخيّ للفدائيين الذي قدّمتهُ مصر كما ذكرَ موشيه ديّان في مذكراتهِ [2].
تبعًا لذلك، قبيل الحرب الإمبرياليّة على مصر، بدأ التخطيط لكيفيّة إنفاذ عمليّة التهجير، بدايةً لأهالي المثلثّ ضمن خطة سميت “حفرفرت” التي اهتمّت في تطبيق مخطّط “ترانسفير” شامل يتطابق مع مخططات عام 1948، التي تستدعي وجود حرب مع الجهةِ الحدوديّة، في هذهِ الحالة المملكة الأردنيّة، ومع إطلاق النيران يتمّ ارتكاب مجزرةٍ أو أكثر ممّا يدفع الناس إلى الخوفِ والهروب [3] وهذا ما برزَ في النقاشات المتداولة التي وثقّتها المحكمة لمرتكبي مجزرة كفر قاسم قبيل الحرب بينَ القيادات العسكريّة: تسور ميلينكي وهو قائد كتيبة حرس الحدود التي ارتكبت المجزرة، ويسسخار شدمي وهو قائد اللواء السابع عشر في القيادة المركزيّة الذي قال بشكلٍ واضح “الله يرحمه” لمن يتواجد في ساعات حظر التجوّل، وهو أمر صريح بالقتل إذ سألهُ ميلينكي حول مسألة عودة العمّال من المستوطنات المجاورة الذين سيخرجون من الصباح الباكر ولن يكون لديهم علم بأوامر حظر التجوّل، ولكن شدمي أصرّ على أن يكون هناك دم وقتل بمعنى أو بآخر [4].
نستطيع أن نستنتج أمرين:
(1) توقّعات المؤسسة العسكريّة الصهيونيّة بانخراط الأردن هو الذي ساهمَ في بدء تنفيذ مخطّط “حفرفرت” بدءًا من القرى الحدوديّة، أي منطقة المثلّث الصغير، وهي تشمل مدناً من كفر قاسم جنوبا، الطيرة والطيّبة مرورًا بباقة الغربيّة، وجتّ حتى وادي عارة والقرى المجاورة، وصولًا إلى مدينة أم الفحم في شماليّ المثلّث، ولكن في اليوم الأخير قبل بدء العلم أدركت المؤسسة أنّ الأردن لن تكون جزءًا من الحرب، وأصدرت قرارات حيال وقفِ تنفيذ المخطّط، وأحدثَ ذلكَ بلبلةً ولم تصل هذهِ الأوامر بدقّة وتراتبيّة إلى قائد الكتيبة. لأننا رأينا النتائج التي أودت بمقتل 49 من أهالي كفرقاسم رجالًا ونساءً وأطفالًا، ومن المهمّ التشديد على أنّ الشهداء ليسوا جميعًا عمّالًا بل كانوا أيضًا في أحيان عائدين من قطفِ الزيتون وهكذا… وهذا يبيّن وجود نيّة فعليّة بارتكابٍ مجزرةٍ بأبشعِ صورة ممكنة كان من الممكن أن تمتدّ إلى قرى وبالصورةِ ذاتها بهدف إجلاء سكّان المثلّث جميعهم، كما قُتل آخرون في قريةِ الطيرة والطيّبة ولكن في أشكالٍ أقلّ وطأة ربّما بسببِ وصول التعليمات واضحة حول وقف تنفيذ المخطّط.
(2) نستنتج أيضًا أن الإخفاق الجاري في الجانب التخطيطيّ والتنفيذيّ للتهجير القسريّ، إذ إن المجزرة كونها ترمز إلى هذا الإخفاق – أو ما استطاعت الآلة الاستعماريّة تحقيقهُ إزاء الفلسطينيّ في تلك اللحظة الحاسمة – وهذهِ المجزرة علامة على صمود الأهالي، وعدم قدرة المنظومات العسكريّة الاستعماريّة فرض التهجير، واعتبر الحكم العسكريّ ليسَ إلّا أداة تهدف لإنفاذ مخططات التهجير. وهذهِ بداية مشروع سياسيّ متكامل حول مبدأ البقاء والصمود، وتعزّز ذلك في خطاب القيادة الشيوعيّة والقوميّة بالتأكيد، على الفروقات بينهم.
ضمن محدّدات المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ وناظم استبدال السكّان الأصلانيين بالمستوطنين؛ إحدى الوسائل الناجعة هي “الاستيعاب والاحتواء” في قدرتها على محو الأصلاني دونما طردهِ فيزيائيًا
وكما لفتَ حبيبي في مقالتهِ، من حيثُ جملتهِ بخصوص تحطيم سياسة التهجير عبر المقاومة الشديدة لأهالي بورسعيد، وهو بذلك ربطَ مصائر المقاومة والصمود العربيّ في صورةٍ واحدة متكاملة، وبالفعل قد تخلّت المؤسسة تدريجيًا منذ ذلك التاريخ عن سياسة التهجير هذه كما ظهر في اقتباساتٍ عدّة لنخب صهيونيّة آنذاك وأذكر على سبيل المثال، ما وجدناهُ في وثيقة صدرت عام 1959 (توصيات للتعامل مع الأقليّة العربيّة)، عن مستشار رئيس الحكومة، شموئيل ديفون:
“سياسة الحكومة تجاه الأقلية العربية وصلت إلى مفترق طرق ويجب أن تقرر[….] يجب التأكيد على وجه اليقين أن احتمال خروج العرب بالجملة من البلاد لا ينبغي توقعه في المستقبل المنظور. لذلك، يجب إزالة هذا الاحتمال من جدول الأعمال عند التخطيط للسياسة المستقبلية” [5].
بالمقابل، هذا لا عني أنها تخلّت عن الناظم الأساس للمشروع وهو إبادة ومحو الفلسطينيّين، عبر وسائل أخرى منها “الاستيعاب والاحتواء” على أسس محو وجودهم الاقتصاديّ الماديّ الاجتماعيّ السياسيّ، وهويّتهم الوطنيّة.
وإجمالًا، هذهِ اللحظة المفصليّة أحدثت تغييرًا في التفكير السياسيّ، عند القيادة العربيّة داخل الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، جعلتهُ مكشوفًا أمام حقيقة المشروع عمومًا، من تثبيت الحكم العسكريّ، كما اصطلح عليهِ في خطابهم “سياسة الاضطهاد القوميّ”، حتى المجزرة وادراكهم الخطر المحدق أمام الجماهير العربيّة، ولا بديل عن صمودٍ متشبّث بالأرض واستكمال النضال الشعبيّ وإضعاف وتجفيف القوى العربيّة التقليديّة التابعة للحزبِ الحاكم.
عن تكثيف النضال الجماهيريّ: حزام المقاومة
مع نهاية المرحلة الأولى، ووقفِ العمل بسياسةِ التهجير والطرد ضدّ الفلسطينيين الباقين، أدركت المؤسسة الصهيونيّة أن التعامل مع العرب يجب أن يكون مدروسًا على مستوى أبعد وأكثر جديّة، ضمن محدّدات المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ وناظم استبدال السكّان الأصلانيين بالمستوطنين؛ إحدى الوسائل الناجعة هي “الاستيعاب والاحتواء” في قدرتها على محو الأصلاني دونما طردهِ فيزيائيًا، حيثُ أن المراد هو اختفاء الوجود الأصلاني ثقافيًا سياسيًا اجتماعيًا اقتصاديًا وفي حالِ استطاعت المؤسسات الاستعماريّة استيعابه وجعله جُزءاً من البنية والفعل الاستعماريّ وأيضًا تحفيز هويّة جديدة، ثقافة، وتبعيّة اقتصاديّة، وانهيار أنماط إنتاج تقليديّة، وعلاقات اجتماعيّة ليست مدينيّة وليست قرويّة، واستمرار عمليّة مصادرة الأرض وإنهاء حالة الملكيّة القوميّة على الأرض، وبدورها تصبح مسألة فرديّة عند “مواطني الدولة”، لذلك كانن المباشرة بالعمل على المستويين بدءًا من عامِ 1957.
إذًا، سنرى كيف تحوّلت المرحلة التالية مرحلة جذب إلى الصهيونيّة ومقاومة ذلك فلسطينيًا. سأصفُ هذهِ المرحلة من خلال ثيمات أوليّة تكشفُ لنا عن احتجاجاتٍ واشتباكات مع المؤسسة الأمنيّة، هذهِ المرحلة هي الأكثر حساسيّة في الحكم العسكريّ، باعتبارها المرحلة التي ستحسم مسألة على أيّة أسس سيبقى الفلسطينيّ مواطنًا داخل الدولة الاستعمارية الاستيطانيّة، من المهمّ أن تعتبر هذهِ الثيمات تمهيدًا للعمل التوثيقيّ وتأريخ الحكم العسكريّ بالتركيز على موقعِ الفلسطينيّ في هذهِ المعادلة.
(1) الهويّة: انتفاضة عيد العمّال 1958
قبيل عام 1958، بدأت تحضيرات الاحتفال بالعشريّة الأولى لاستقلال دولة “إسرائيل” في كلّ أرجاء الدولة، واعتبر هذا العام حاسمًا في صورةِ الدولة لذاتها وأمام المجتمع الدوليّ، وهذا جاء في سياق إجبار العرب على الاحتفال من خلال فرضِ مظاهر ورموز الدولة والأعلام والمهرجانات، جميعها تهدف إلى خلقِ هويّة جديدة عربيّة-إسرائيليّة، وهي بالتأكيد هويّة تابعة وتخفي بالتالي جزءاً باقياً من أصلانيّة الفلسطينيين العرب، باعتبارهِ مراد المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ.
نستطيع أن نرصد بدء الاحتجاج ومسار شحذ الهمم السياسيّة والوطنيّة في جريدة “الاتحاد” (22 نيسان 1958)، خوض النضال ضدّ عيد الاستقلال هو لم يكن مفهومًا ضمنًا منذُ البداية ولا نجد ذكرًا لكونها مشكلة بحدّ ذاتها، وهذا مهمّ منهجيًا رؤية التطوّرات السياسيّة على أساس المراحل التاريخيّة حيثُ أنه ما تلا مجزرة كفرقاسم ليسَ كما سبقها. وأقتبس: “يشدّد الحكّام ضغطهم على الهيئات العربيّة التي يستطيعون الضغط عليها لتحتفل بهذهِ المناسبة ولتجرّ معها الجماهير العربيّة للاشتراك في هذهِ الاحتفالات مستهدفين بذلك خداع الرأي العامّ المحليّ والعالميّ، ومظهرين الجماهير العربيّة وكأنها الراضية الهانئة في جنّة النظام البنغريوني، وهي مسلوبة الحقوق القوميّة واليوميّة”. ثمّ في الوقتِ نفسه تؤسس للربط السياسيّ التاريخيّ بين ذكرى النكبة وتشريد الشعب الفلسطينيّ واستمراريّة المأساة في الحكم العسكريّ، مما يعطي هذا الحدث أبعادًا وطنيّة واسعة في الخطاب الناشئ حديثًا: “ولكن الشعب العربيّ لا يستطيع أن يحتفل بذكرى تقترن بالنسبةِ لهم، بمؤامرة نفذّها الاستعمار وأعوانه لتشريد الأكثريّة من أبنائه ولسلبِ حقوق القوميّة، وحقّ الحياة حرًا كريمًا في وطنهِ؛ وهو لا يستطيع أن يحتفل وحكّام هذهِ البلاد يحرمون عليهِ التنقّل الحرّ في وطنهِ ويسلبون أراضيهِ ويصادرون ممتلكاتهِ ويطاردون أبنائهِ من أماكن عملهم ويمنعون اللقمة الحلال عنهم”. ولكن العدد القادم من “الاتحادّ” سنجدهُ زاخرًا بالحديث عن “الحكم العسكريّ، وإذلالنا في احتفالهِ” [6]. بالتأكيد، وبعد مرور عقد كامل على الحكم العسكريّ، تبيّن أنه لن نتمكّن من إنهاء الحكم العسكريّ ضمن النسق الخطابيّ الذي أسّس لهُ الحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، باعتبار أن دولة “إسرائيل” هي ديمقراطيّة والحكم العسكريّ هو الاستثناء الذي يجب إزالتهِ من أجل الحفاظ على “إسرائيل” ديمقراطيّة وتقدميّة.
كما أن أحد مراسيم الاحتفال هو افتتاح مساجد بهدفِ خداع مشاعر المسلمين الفلسطينيين وإعادة تشكيلهم كمواطنين إسرائيليين، سنجدهُ مخصّصاً لتحريض الناس على معارضة مظاهر الاحتفال. وفي مقالة مهمّة لتوفيق طوبي بعنوان “حصاد عشر سنين”، يقول فيها: “لقد سلخت الجماهير العربيّة في إسرائيل من عمرها عشر سنوات من الظلم والتنكيل كانت خلالها فريسة لسياسة هدم الكيان القوميّ والطرد من الوطن، تلك السياسة التي تكللت بمجزرة كفر قاسم البشعة التي ذهب ضحيّتها 49 رجلًا وامرأة وطفلا. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذهِ السياسة؛ فالجماهير العربيّة في إسرائيل تجد نفسها اليوم وقد صلبَ عودها وازدادت خبرتها واشتدّ تمترسها في النضال من أجل حقوقها” [6]. ونشر هذا العدد بعد ثلاثة أيّام (25 نيسان 1958) وذكرهِ لمجزرة كفرقاسم ليسَ صدفةً بل يؤكد لنا وجود مرحلتين، على الأقل نظريًا، في تأطير الفعل السياسيّ والاحتجاجيّ النضاليّ ضد الحكم العسكريّ.
ما يميّز ذلك هو رسم ملامح المرحلة القادمة، حيثُ نرى العديد من المبادرات الشعبيّة لإلغاء الحكم العسكريّة وتغطية مستمرّة لكلّ فعاليّة شعبيّة، مقالات، أخبار؛ اجتهدت “الاتحاد” لتأطير تحريضي ولغة تحدّ للحكم العسكريّ وسياسات الدولة الاضطهاديّة والقمعيّة، وارتباطها الاستعماريّ. لم نعد نرى، غالبًا، أيّ تلميح إيجابيّ حول الدولة ودورها في المنطقة، أو كونها جُزءاً من “كتلة السلام”، وتقريبًا لن تجد موضعًا تُذكر فيهِ “الدولة واستقلالها” إلّا بموضع نقد وتحدٍ.
عناوين “الاتحاد” مع اقتراب عيد العمّال (29 نيسان 1958) مزجت بينَ عيد العمّال وكفاح الجماهير العربيّة كما جاء العنوان الآتي “الجليل يموج بالحماس استعدادًا لمظاهرة أيار في الناصرة: الشعب العربيّ سيُعرب عن ثقتهِ بتحطيم طوقهِ وبالانطلاق”؛ في هذا النصّ نرى، أولًا، أن الألوف من فلسطينيّي الجليل قادمون إلى الناصرة للتظاهر في الأول من أيّار، أمّا العنوان الثانويّ “الناصرة تصرخ بمناشيرها: لن نصفّق لسالبي حقوق الشعب العربيّ وأراضيه ولهادمي قُراه” فهو يبيّن كيف فشلت محاولة إجبار الناس على الاحتفال في “عشريّة الاستقلال” [7].
هذهِ الاستعدادات أثمرت في كفاح واشتباكٍ لأول مرّة بهذا الحجم، والتغطية الثوريّة في هذا السياق. من المهمّ أن نتخيّل خارطة الانتفاضة؛ التجمّع الرئيس للتظاهر هو مدينة الناصرة، حيثُ أنّ الجليل عمومًا، كما أوضحنا أعلاه، تزاحم أهله للمُشاركة، أمّا المدن الأخرى التي نجد فيها تظاهرات واسعة عربيّة-يهوديّة دونما اشتباكات فـ”الاتحاد” اتّهمت “الزعامة الهستدروتيّة” في نزع العامل الكفاحيّ النضاليّ من هذهِ المظاهرات: تل أبيب، حيفا، القدس، الرملة، ولكن في المساء شارك الألوف في اجتماعات احتجاجيّة على إرهاب الشرطة ضدّ المتظاهرين في الناصرة [8]. ثمّ نجد كفر ياسيف في الواجهة بعد رفض الشيوعيين الاحتفال بالعشريّة، وانتزاع علم الدولة، بدأت سلسلة اعتقالات وحصار للبلدة “وعمدت الشرطة إلى فرض جوّ إرهابيّ على البلدة وسكّانها فأخذت تبحث في الليل عن مواطنين آخرين، وتداهم البيوت وترعب الأطفال والنساء”، وللرامة والبعنة وجديدة المكر [9].
إضافةً إلى امتداد الاحتجاج والمظاهرات – إلى منطقةِ المثلث، تحديدًا في بلدةِ أم الفحم – للجماهير الفلسطينيّة، تحوّل اجتماعٍ شعبيّ للحزب الشيوعيّ إلى مظاهرة واشتباكات مع الشرطة وإطلاق رصاص على المتظاهرين في اليوم ذاتهِ، وقد دافعَ العمّال والفلاحون عن البلدة وهويّتها وموقفها السياسيّ ضدّ إجبار الناس لاحتفالهم في عيد الاستقلال [10]. وبعد مرور يومين، تستمرّ الاحتجاجات، نرى أكثر من ألف شخص في الطيّبة يجتمعون في ساحة القرية. ومن المهمّ أن ننتبه إلى أن هذهِ الأعداد كبيرة جدًا نسبيًا من عدد الفلسطينيين آنذاك داخل “إسرائيل”. ووصل عدد المعتقلين إلى ما يزيد عن 300 معتقل؛ من عمّال ومتظاهرين بشكلٍ عشوائيّ من جميع القرى، البلدات والمدن العربيّة الفلسطينيّة، ونُلاحظ أن الحزب استطاع تحريك طلبة المدارس سياسيًا، حيثُ نجد مطالبات الإضراب والتضامن مع المعتقلين؛ حملات ونداءات توقيع عرائض وما إلى ذلك، وحلقات بيتيّة واجتماعات مكثّفة.
وميّز، بالتالي، مظاهرة الأول من أيّار، أنها ستتحوّل لمظاهرة الشعب، وأن أعداد الشرطة الكبيرة، ليست فقط بهدف مظاهرة ينظّمها الشيوعيين: “ولم تنطلِ الحيلة على هذا الشعب، لقد أدرك الشعب حالًا أن أقدام البوليس تريد أن تطأ لا مظاهرة يقودها الشيوعيون فحسب، بل حقّ شعبنا كلّه في توحيد صفوفه وراء حقوقه القوميّة واليوميّة. ‘دافار’ نفسها كتبت القضيّة أن هذهِ المظاهرة ستتحوّل إلى مظاهرة الشعب كلّه تطالب بإعادة اللاجئين وبحقّ تقرير المصير” [11].
وهنا نجد أنفسنا في بدايةِ معركةٍ شديدة على الحقوق السياسيّة، ونضال الجماهير العربيّة الفلسطينيّة من أجل تشكيل هويّتهم، وفي الوقتِ ذاتهِ هذا لا يعني بالضرورة إفشال المخطّط القائم على “الاستيعاب والاحتواء” حينما نقف على احتجاجاتٍ ونضالٍ فلسطينيّ داخل الحكم العسكريّ، وخصوصًا ضمن هذهِ المرحلة الحساسة، هذا يعني أننا نؤرّخ للمحاولات الفلسطينيّة الحثيثة، ضمن شبكة هيمنة تهدف جذريًا إلى إزالةِ الأصلانيّ.
(2) المدرسة: باقة الغربيّة 1962
وأمّا الثيمة الأخرى، فهي “المدرسة” باعتبارها المساحة التربويّة التي تُنعش ذاكرة الفلسطينيين وتحفّز وجودهم ومقاومتهم، لذا كانَ من المهمّ تقويض المساحات التربويّة والمضامين، هذهِ الثيمة هي الآن في محلّ الصراع ما بينَ الجذب للصهيونيّة ومقاومتها، حيث تصبح المدارس ثيمةً أساسيّة في الصراع، وهذا ما يجبُ أن نتنبّه إليهِ ونعي مآلات المظاهرات والاحتجاجات التي نظّمت في باقة الغربيّة بهدف افتتاحِ مدرسةٍ جديدة.
إذ إنّني أدّعي أن ثيمة المدارس بشكلٍ خاصّ ومسألة توفير الخدمات الأساسيّة مثل الكهرباء والمياه للجماهير العربيّة الفلسطينيّة الباقية، قد تحوّلت إلى موضوعات النضال في المرحلة الثانية من الحكم العسكريّ، كونها سيتمّ إدخالها وتنفيذها في المساحات العربيّة بشكلٍ مشروط باندماجهم. وهذا أحد أسباب الصراع والاحتجاج الذي سنراهُ في باقة الغربيّة، كما نستطيع أن نراهُ في بلداتٍ عدّة مع مزيد من الحفر الأرشيفيّ داخل الجرائد و”أرشيف الدولة”.
ثيمة المدارس بشكلٍ خاصّ ومسألة توفير الخدمات الأساسيّة مثل الكهرباء والمياه للجماهير العربيّة الفلسطينيّة الباقية، قد تحوّلت إلى موضوعات النضال في المرحلة الثانية من الحكم العسكريّ
لنروي قصّة المدرسة من بداية الحكم العسكريّ حينما انضمّ العديد من شباب وأهالي المثلث عمومًا إلى الحزب الشيوعيّ، كونه المساحة الوحيدة القانونيّة التي تتيح معارضة إسرائيل والحكم العسكريّ. وقد ساهم ذلك في ازدياد شعبيّة الحزب وفقًا لحديثي مع الحاجّ مراد قعدان من باقة الغربيّة، انضمّ كلّ من: إبراهيم مصطفى وأخوته، إبراهيم الخالد وصبحي الخالد بيادسة، خضر عنبوسي، مصطفى عبد الفتّاح قعدان أبو الوليد، أحمد العاشور عثامنة، بالإضافة إلى دار أبي جعفر، وهم جميعهم نُشطاء، ناهيك عن المصوّتين. كما وسكرتير الحزب في باقة، السيّد إبراهيم بيادسة، الذي كان ناشطًا جدًّا وفعّالًا وصحافيًّا في جريدة “الاتحادّ” يكتب التقارير، بالإضافة إلى السيّد صبحي بيادسة. ويلفت الحاجّ مراد بشكلٍ واضح، إلى الرابط بين إنشاء مدارس في البلدة، وبين وعي الناس بحقوقهم، وهذهِ لفتة مهمّة يجب الوقوف عندها. بنيت المدرسة على أراضي وقف المسجد، وأختار هذهِ النقطة تحديدًا للإشارة إلى علاقة المدرسة والوعي والتربية الوطنيّة، لأنّ مسار تشييد مدرسة جديدة في شماليّ البلد في باقة الغربيّة، تخلّلته عقبات وتحدّيات من قبل “مديريّة أراضي إسرائيل”، ناهيك عن العقبات التي وضعت أمام هذهِ المدرسة التي درس فيها الناس الابتدائيّة.
إذ إن المدرسة التاريخيّة في باقة التي تقع على تلةٍ صغيرة وقعت تحت سيطرة قوّات من الجيش مع تسليم باقة الغربيّة من قِبل المملكة الأردنيّة (كجُزء من اتفاقيّة رودس التي سلّمت فيها منطقة المثلث الصغير)، وضع الحاكم العسكريّ المدرسة تحت إمكانيّة الإغلاق، بحجّة أنّ العديد من طلبة باقة يتّجهون إلى الطيرة. ولعلّ توجّههم إلى الطيرة هو جزء من خطّة تفريغ مدرسة باقة، إذ إنّ الحاكم العسكريّ مسؤول عن كلّ التصريحات، ووفقًا لهذه الحجّة، بدأ التفكير مرةً أخرى في إغلاق المدرسة [12]. وفي عام 1957، وصل مكتوب إلى المجلس المحليّ من وزير الداخليّة، يأمره بعدم صرف أي مبلغ من ميزانيّته على المدرسة الثانويّة، وأنّ على الإدارة تسديد مصروفها من دخلها. وبهذا الكتاب، أحكمت الحكومة جميع حلقات المؤامرة لإغلاق مدرسة ثانويّة باقة، فالميزانيّة المقرّرة تبلغ 24 ألف ليرة، ومن المستحيل تسديد هذا المبلغ. أصبح الحديث عن إغلاق المدرسة الثانوية الشغل الشاغل لأهالي المنطقة، وهم مستاؤون من هذهِ الخطوة الخطيرة، التي تهدّد مستقبل أبنائهم. وما لم يهبّ أولياء أمور التلاميذ لمقاومة هذهِ المؤامرة، سيجدون أبناءهم في الشوارع. لم تغلق المدرسة في النهاية، ولم أجد معلومات تفيد بتفاصيل القرار، لكن، يتبيّن أنهُ مع أحداث الانتفاضة تأجّلت المسألة.
ولكن هذا لم يعن أن المسألة قد حُلت، ولكن وقوف إحدى الشخصيّات القياديّة في باقة إلى جانب المؤسسة الصهيونيّة جعل منهُ مقربًا من النخبة السياسيّة في الحزب الحاكم “ماباي”، مثلًا قد وقفَ بشدّة ضدّ انتفاضة عام 1958، وساهمَ في التحريض ضدّ المعتقلين، كما يُقال أنه طلب من أهالي الشهداء من كفرقاسم التنازل عن حقوقهم القانونيّة لمعاقبة المُجرمين – لم أملك الوثيقة التي تؤكّد ذلك، ولكن من المرجّح جدًا فعليًا قامَ بذلك لأنّ تاريخهُ يبيّن الولاء الشديد للمؤسسة.
في عام 1962، وهو العام الذي بدأت فيه “مخططات تطوير القرية العربيّة والدرزيّة” التي باشرَ فيها وزير الزراعة آنذاك موشيه ديّان، بعد مرور أربعة أعوام على انتفاضة الفلسطينيّين عام 1958، أرسل فارس حمدان، رئيس المجلس المحليّ الجديد، رسالةً إلى وزير الماليّة بهدفِ تخصيص ميزانيّة لبناءِ مدرسةٍ في باقة الغربيّة. وبموجب ما قاله لي الأستاذ فهمي، إنّه مع انتقال رئاسة المجلس إلى فارس حمدان (أرشيف الدولة، مجلّد مدرسة باقة الغربية [12]) اعتبرت قضيّة بناء المدرسة أمرًا مُلحًّا وجزءاً من “النوايا الحسنة” التي تدفع بها الدولة من أجل استيعاب العرب وربط مصيرهم في قيادةٍ تقليديّة موالية لـ”إسرائيل”.
بلغ عدد مواطني القرية في حينه خمسة آلاف نسمة، وأكثر من ألف هم طلّاب، وقال فارس حمدان: “نودّ بناء مدرسة، وتحدّثنا مع شركة “سوليل بونيه” وثمنها قد يصل إلى 700 ألف ليرة، ولدينا قرض 100 ألف تقريبًا من وزارة التربية، ونريد تخصيص باقي الميزانيّة من الوقف الإسلاميّ”، إذ كانت، كما ذكرنا، الأراضي التي ستقام عليها المدرسة من الوقف. تبلغ مساحة الأرض 13 دونمًا تقريبًا، بحسب أقوال فارس حمدان، وهي تسمّى أرض “عنقود”، وهي واقعة تحت الإدارة الإسرائيليّة، ووفقًا للمخطّط تعتبر من ضمن أراضي قرية جتّ. وفي رسائل أخرى، أرسلت لجمع القروض، جاء فيها: “نحنُ نعلم أنّكم دولة ديمقراطيّة، ولا ترضون أن يصبح الشباب العربيّ يرتمون في الشوارع، لذلك علينا بسرعة وبعجالة أن نبني مدرسة، نستطيع بها احتضانهم”. هذهِ طريقة أخرى من استجلاب الميزانيّات والقروض لمشاريع محليّة؛ أن تخاطبهم بلهجةٍ متعاونة وترى أهميّة استيعاب الشباب العرب من قِبل الدولة.
استكمال نضال أهالي البلدة ورسائل فارس حمدان
مع نهاية العام، تمّت الموافقة نهائيًا على مشروع المدرسة وإنجازها، وعلى هذا الأساس عُيّن لقاء مع نائب “أراضي إسرائيل”، بهدف التنسيق حول المدرسة، لكن، لم أجد معلومات حولَ الموضوع؛ عن سبب الاجتماع وأهدافه، ولا حتّى مخرجاته. إلّا أنه تسبّب عمليًا بعدمِ افتتاح المدرسة، وردًا على ذلك نظّمت القوى السياسيّة في البلدة مظاهرة حاشدة، لطلّاب المدارس والمعلّمين، ووصلَ عددهم إلى ما يقارب 200، عدد كبير نسبةً لعدد الأهالي في باقة (5000 نسمة). وناهيك عن مشاركة العمّال ومناضلين من حركة الأرض والحزب الشيوعيّ، كإبراهيم غنايم وإبراهيم بيادسة، الذين شاركوا أيضًا في التنظيم.
وفي وثيقةٍ صدرت عن اللواء الشماليّ، مقرّ الخضيرة، تشير إلى أنّ المظاهرة نُظّمت بهدف الضغط على الجهات المعنيّة والمسؤولين، لتنفيذ مشروع المدرسة. وفي وثيقةٍ من مديريّة أراضي إسرائيل إلى مستشار الحكومة للشؤون العربيّة، نجد هناك الأسباب التي دعت للمظاهرة، وخطط سلب أراضي المدرسة. إذ حاولت “مديريّة الأراضي” استهداف الأرض ومنع المجلس المحليّ من بناء مدرسةٍ هناك، بادّعاء أنّ الأرض تقع تحت “قانون أملاك الغائبين”، بالتالي تصبح هذهِ الأرض غير متاحة، وتوجّه المجلس إلى القضاء في هذا الخصوص (أرشيف الدولة، مدرسة باقة الغربية) [14].
تحوّلت المظاهرة بسرعةٍ إلى مسيرة شعبيّة تجوب شوارع القرية، بهتافات تطالب بفتح أبواب المدرسة الجديدة أمام الطلّاب، وتستنكر المؤامرة الحكوميّة التي تهدف إلى سلب أراضي المدرسة، أي سلب المدرسة وحقّ الطلاب في التعلّم. وقد حملت شعارات مثل “فلتسقط سياسة التجهيل”، و”لتفتح أبواب المدارس أمامنا”، كما رسم الطلاب لافتات كتب عليها “الطالب نواة المجتمع”. وبعد مرور ساعة على المظاهرة توجّهت إلى المجلس المحلّي ورئيسها فارس حمدان ثمّ إلى مقرّ الحاكم العسكريّ وهناك واجهت المظاهرة وحدات من الشرطة والجنود. تلخّصت مطالب المظاهرة في ما يلي: (1) حلّ مشكلة الطلّاب المتعطّلين من الدراسة، بسبب تصدّع المدرسة القديمة في أسرع وقت. (2) فتح أبواب المدرسة الجديدة، رغمًا عن المؤامرة لسلب الأرض. وقد تكوّنت لجنة مبادرة للدفاع عن مطالب الناس، وعقدت لجنة المبادرة اجتماعًا شعبيًّا لهذا الغرض وتحقيق مطالب الناس، ووعدت الدوائر الحكوميّة بتحقيقها (وفقًا لتقرير جريدة “الاتحاد”) [15].
ثمّ في الأيام التي تلت المظاهرة، نجد في الوثائق رسالة وجّهها فارس حمدان إلى مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربيّة، وحاكم لواء حيفا، وحاكم المثلّث العسكريّ، في تاريخ 14 ديسمبر-كانون الأول عام 1962. جاء فيها أنّ المظاهرة التي قام بها التلاميذ وأولياؤهم، جرت بعد تعطيل وإبعاد 600 طالب عن المدارس. وكانت شعاراتهم حول حقّهم في التعليم، وفتح المدارس، وشدّد في الرسالة على أنه يستنكر كلّ أنواع المظاهرات، وأنّه لا يدافع عن المتظاهرين، إلّا أنّ هذهِ المظاهرة كانت “سلميّة وشريفة”.
كما يبيّن أنّ مدير المعارف هو شخص فاسد، وسبب هذهِ المشكلة، ويقول في هذهِ المناسبة، أنّ المثلّث يختلف عن الجليل، وأهالي باقة الغربيّة يختلفون عن باقي المثلّث، وليس من طبيعة باقة القيام بأعمال الشغب، وما قام به الطلّاب هو أبسط وسيلة للتعبير عن أنفسهم، ومحاولة للتأثير على وضع الأرض المقامة عليها المدرسة. ويبدو أنّ إدارة المعارف وجّهت رسالة إلى رئيس المجلس في 14 ديسمبر-كانون الأول، أي بعد يومين من المظاهرة، تقول فيها أنّ المسألة متعلّقة في صلاحيّة المبنى للتعليم. وواضح أنّ الدولة كلّ مرّة تمرّر حجّة جديدة لوضع عقبات أمام حقّ الطلاب في التعليم، ثمّ أنّها تزعم مشاركة “شخصيّات سلبيّة” من القرية في المظاهرة، وأنّه كان بإمكان المجلس المحليّ معرفة مثل هذهِ النتائج. إذ إنّ الدولة وأجهزتها الأمنيّة تعمّدت إلقاء التهم على أهالي القرية وقيادتهم الشعبيّة مثل إبراهيم بيادسة وآخرين، باعتبارهم “محرضون”، مما يبيّن لنا أن الحكم العسكريّ هو جهاز للسيطرة والرقابة على العرب الفلسطينيين وربط حقوقه بـ”طاعتهم” (أرشيف الدولة، مدرسة باقة الغربية) [16].
مصادر:
[1] أنظر إلى: كفر مندا يتهددها خطر التصفية. “الاتحاد”. حيفا، 29 تشرين الأول (نوفمبر)، 1954/ صفحة 4
[2] موشيه ديّان. مذكرات حملة سيناء. هاربر آند رو. 1966 (باللغة الأنجليزيّة)
[3] أنظر إلى: محمود محارب. الأرشيفات في إسرائيل والرواية التاريخيّة الإسرائيليّة والنكبة. “مدى الكرمل”، 2022.
[4] راز. مجزرة كفرقاسم – السيرة السياسيّة. مكتبة كلّ شيء، حيفا، ترجمة عن العبريّة نوّاف عثامنة. 2019.
[5] أرشيف “أحدوت ها عفودا”، توصيات التعامل مع الأقلية العربية في إسرائيل”، سبتمبر 1954. 2-926-1959-18
[6] كلمة الجريدة السياسيّة. “كلمة الاتحادّ الذكرى العاشرة”. “الاتحاد”. حيفا، 22 نيسان (أبريل)، 1958/ صفحة 1
[7] قسم دبابيس في الجريدة. “الاتحاد”. حيفا، 25 نيسان (أبريل)، 1958/ صفحة 2.
[7] خبر صحافيّ.”الجليل يموج بالحماس استعدادا لمظاهرة أيار في الناصرة”. “الاتحاد”. حيفا، 29 نيسان (أبريل)، 1958/ صفحة 1.
[8] خبر رئيسي.”البوليس يحوّل الناصرة في أول أيار إلى ساحة حرب”. “الاتحاد”. حيفا، 2 أيار (مايو)، 1958/ صفحة 1.
[9] خبر صحافيّ.”موجة الارهاب تنتشر في كفر ياسيف”. “الاتحاد”. حيفا، 2 أيار (مايو)، 1958/ صفحة 3.
[10] خبر رئيسي.”الشرطة تطلق الرصاص على اجتماع لجماهير أم الفحم…”. “الاتحاد”. حيفا، 6 أيار (مايو)، 1958/ صفحة 1.
[11] إميل، حبيبي.”أقلام البوليس وأقدام البوليس وشعب يكتب بوحدتهِ تاريخ حياته!”. “الاتحاد”. حيفا، 9 أيار (مايو)، 1958/ صفحة 2.
[12] بيادسة، صبحي. باقة الغربية تاريخ لا ينسى: مسيرة وتاريخ. دار الهدى للطباعة والنشر. 2002
[13] صدر المجلّد عن مستشار الشؤون العربيّة للحكومة، رقم المجلّد: 17016/GL-10
[14] المجلّد نفسه.
[15] “تظاهرة جبارة في باقة الغربيّة لتأمين الدراسة”. “الاتحاد”. حيفا، 14 حزيران (يونيو)، 1962/ صفحة 5.
[16] المجلّد نفسه.