صدرت مجموعة أوراق في مجلد عنوانهُ “التعامل مع الأقلية العربية” في إطار زمني من 24 أيار حتى 28 أيار عام 1967، مصنف “سريّ جدًا” (هذه تعتبر أعلى درجة من الحظر، وخلال الاطلاع على الأرشيف وجدت أيضًا تصنيفات مثل “سرّي” وأيضًا “محدود” ويقصد بذلك المستندات محدودة التداول بين المؤسسات والشخصيات). تقع أهمية المستندات التي أمامنا بأنها أولًا بعد فترة الحكم العسكري من عام 1948- 1966، وهي الفترة التي ساهمت في تشكيل سيادة الدولة الاستعمارية الاستيطانية والسيطرة على الفلسطينيين الباقين في شتى الوسائل والأطر والمشاريع. كما أنها الفترة التي برز فيها القمع والمحو والعنف بشكلٍ ملموس، ماديّ ويومي، بالتالي يطرح السؤال في هذا الصدد: لماذا بعد إلغاء الحكم العسكري استمرت السياسة الأمنية والعنيفة وتأطير العرب باعتبارهم “العدو من الداخل”؟ وكيف نفهم الحركة الصهيونية ودوافعها؟ وثانيًا، تداول المستندات استعدادًا للعدوان على الدول العربية، بحيث أنها تعبّر عن فترة حساسة كونها الحرب الثانية التي أكملت فيها احتلال فلسطين التاريخيّة كاملةً.
الوثيقة تعبّر عن العقل الاستعماري الاستيطاني، وإعداده المستمر والترقب الدائم إزاء الفلسطينيين “العدو من الداخل”. قد يظن البعض أن المؤسسة الصهيونية بدأت بالقلق من الفلسطينيين بالداخل نتيجة فقط لأحداث “هبة الكرامة”، وانتفاض الشباب الفلسطيني في كل الجبهات، ومشاركة الفلسطينيين الباقين، حيث ساهموا في الاشتباكات اليومية الشعبية، وتخلل ذلك حرق محطات شرطة، ومنشآتها وسياراتها، وإرهاق الأجهزة الأمنية كافة على دوام أسبوع وأكثر في جميع المناطق من أقصى الشمال، ومدن مثل الناصرة، عكا، وحيفا، حتى الجنوب إلى اللد ثم رهط ومرورًا بالمثلث في أم الفحم، وباقة الغربية والطيبة وغيرها الكثير. لم يكن القلق أو تصور العرب كتهديد نتيجة احتجاجات برافر التي قادها شباب وطني ونشطاء أحزاب وأودت بمشروع استيطاني واسع في النقب. ولم تكن الانتفاضة الثانية هي السبب في نشوء التفكير الأمني، والتي شارك فيها الفلسطينيون تضافرًا مع جهود الضفة الغربية وقطاع غزة. المسألة وجودية، تتعلق ببقاء الفلسطينيين، وإجبار المؤسسة الصهيونية على القبول بوجودهم والتعامل معهم كأمر واقع، بالاعتماد على أن الدولة، ومنذ يومها الأول، خططت ومارست مشاريع وعمليات عدة بهدف تصفية الوجود الفلسطيني نهائيًا داخل خطوط الهدنة (1949).
اعتبارات تاريخية
مسألة توجس وخوف وترقب “العدو من الداخل”، ووسم العرب الفلسطينيين الباقين بـ”طابور خامس”، هي صناعة لغوية استعمارية استيطانية، بحيث أنها تعرّف الواقع السياسي والتاريخي على أنه أحقية المستعمِر في الأرض، لذلك عدم رفضنا لهذه الحقيقة هو غير مبرّر. بل يعرّف على أنه تخريبيّ إرهابي، وعلاقتنا مع أقاربنا وأهلنا اللاجئين هي علاقات مع “العدوّ”، وهذا يشير إلى عقلية المستعمِر وكيفية عملها وصناعتها للتبريرات والحجج والمعرفة حول الفلسطينيين. تعامل الدولة مع الفلسطينيين الباقين كأغراض مستعمَرة انعكس مباشرةً في التقرير الصادر عن لجنة التحقيق الأولى لفحص نجاعة الحكم العسكري عام 1949 التي ترأسها ألميليخ أفنير. حددت هدفًا حيويًا لاستمرار الحكم العسكري الذي يقوم بالضبط، والقمع، والطرد، للفلسطينيين. إذ جاء في أحد أسباب أهمية الحكم العسكري، هو كون المجموعة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة آنذاك ما زالت لم تسلّم بسيادة الدولة الجديدة، بهيمنتها، وسطوتها، إضافةً إلى ذلك أنها قد تصبح “أداةً” لإثارة الشغب وللعمليات المسلحة داخل الدولة بيد “الأعداء”. إضافةً إلى ذلك، تحدّث التقرير عن شبكة تجسّس قد تتشكل، وتستخدم ضد الدولة، من أجل منع ذلك والسيطرة على العرب؛ من المهم استمرار الحكم العسكري كونه المخول جميع المسؤوليات الأمنية وتطبيق السياسات واللوائح العسكرية والطوارئ ضد العرب الفلسطينيين.
صياغة العقل السياسي في هذا التقرير منذ عام 1949 ساهم في بناء المنظور الاستراتيجي ضد العرب، من حيث تعريفهم مباشرةً كأهداف للاستعمار الاستيطاني: الأراضي، الفلاحة، الزراعة، اليد العاملة، المواطنة، التنمية من خلال تكون شبكة علاقات هيمنة يتخللها أحيانًا طرد الآلاف من أرضهم مثلما حدث في بلدة مجدل في عام 1950، وفي النقب أيضًا تم طرد الفلسطينيين البدو مرارًا، وأحيانًا مصادرات أراضي واسعة ونقل سكان، أو مجزرة وقتل سكان مثلما حدث في كفرقاسم عام 1956، وأيضًا قتل فتيان على الحدود مع غزة عام 1961، ناهيك عن نفي مواطنين نشطاء وقيادات سياسية وملاحقة واغتيال “المتسللين”، “المهربين” و”الفدائيين”، ممن تجاوزوا وقاوموا الحدود الاستعمارية. بالتالي تطبيق الحكم العسكري ساهم من جهةٍ في تعزيز المشروع الاستعماري الاستيطاني، ومن جهة أخرى ساهم في تصاعد المقاومة في شتى الوسائل والإمكانيات والمستويات.
ويجدر بنا الانتباه إلى أن الحكم العسكري في صلبه هو جسم من أجل التعامل مع وجود العرب، سواء في خيار استمرار عملية طردهم وتركيزهم في مساحات أقل، أو استيعاب منهجي من خلال محو الهوية والثقافة. وتجسد ذلك في عدة خطط ومشاريع تصفوية، مثلًا ما يسمى “عملية يوحنان” التي بادر إليها يوسف فايتس وهو المسؤول عن الأراضي في الصندوق القومي اليهودي (كيرن كييمت) والتي أراد بها التخلص من العرب الفلسطينيين في الجليل ونقلهم إلى الأرجنتين في أراض بملكية يهودية.
كما أنه ما بعد مجزرة كفر قاسم في عام 1956، تم الكشف عن “كتاب خطط طوارئ” أو ما يسمى “الكتاب الأزرق للحكم العسكري”، كما يبدو المذكرة السرية تعرض أمام العرب خيارين:
الأول، إخلاؤهم إلى معسكرات ومخيمات اعتقال وتركيزهم في عمق إسرائيل، حتى لا يتواجدوا على الحدود.
الخيار الثاني، طردهم إلى الأردن (والضفة الغربية).
سيتم إعطاء السكان العرب تحذيراً وجيزاً بوقت محدد للاختيار بين الاثنين، مثل 24 ساعة حتى إفراغ جميع القرى في منطقة المثلث وهي ما يقارب 30 قرية يتجاوز عدد سكانها آنذاك أكثر من 30 ألفًا، وهذا يبيّن لنا جذور خطط الإبادة وكيفية التعامل مع الفلسطينيين في غزة: إفراغ مليون نسمة خلال 48 ساعة فقط، قبيل الاجتياح للمدينة.
بالتالي، الحكم العسكري هو دفيئة الخطط الاستراتيجية للتعامل مع العرب الفلسطينيين تحت المواطنة الكولونيالية. وقد اضطرت القيادة لإلغاء الخطة بسبب عدم انضمام الأردن إلى الحرب، ثم استحالت الخطة إلى فشل كبير بعد مجزرة بحق عشرات الفلسطينيين، وأدى ذلك، بدوره، أولًا إلى صمود ونضال سياسي من قبل الفلسطينيين بعدما تمكنوا من فضح نوايا الاحتلال وإرغام دافيد بن غوريون للاعتذار من الأهالي وإجراء محكمة للمجرمين (ولكن العقوبات مخففة، وأهمية المحكمة في الشهادات التي خرجت)، فهو لم يعتذر عن أية مجزرة قبل ذلك، هذا ساهم في كسر صورة إسرائيل عالميًا ومحليًا وتسليط الضوء على “تعاملها مع الأقليات”، وبعد ذلك في إعادة تقييم النخبة الحاكمة للتعامل مع العرب؛ أخرجت خيار الطرد المنهجي من حسابات المؤسسة الأمنية العسكرية.
إضافةً إلى أنه من عام 1956 حتى نهاية الحكم العسكري، نفذت الحكومة سياسات الاستيعاب والتنمية للعرب، على أساس محو الهوية السياسية، تقليص ومصادرات هائلة للمساحات والأراضي، تقليل مناليتهم للمياه والموارد الطبيعية، استغلال المجالس المحلية بهدف السيطرة والرقابة واختراق المجتمع العربي وإجباره على الولاء السياسي مقابل حقوق وخدمات يومية مثل الكهرباء، التعليم، الرياضة الخ. ونهاية الحكم العسكري جاءت لعدة أسباب وبعد تحقيق عدة أهداف استراتيجية، منها، كما جاء في الأدبيات الأساسية لصبري جريس، يائير بويمل، عادل مناع، إيلان بابيه؛ تسويات ومصادرات الأراضي، الحدود ومنع اللاجئين من العودة، خلق شروط التجزئة والتقسيم.
كما أنني وجدت في وثيقة أنه خلال فترة إلغاء الحكم العسكري على أساس نقل سلطات ومسؤوليات إلى أجهزة أمنية أخرى مثل “الشاباك” و”الشرطة”، حينها بدأت الحكومة في تسريع بناء منشآت أمنية وتوسيع إمكانياتها.
عن الوثيقة والحرب
عقد اجتماع في مكتب “وزارة الأمن” بمشاركة رئيس الحكومة ووزير الأمن ليفي إشكول في 24 أيار عام 1967، وشارك في الاجتماع مسؤولون عسكريون ومن أجهزة الأمن، مثل رئيس “الشاباك” يوسف هرملين، وأيضًا وزير الشرطة إلياهو شاشون، وأيضًا رحبعام زئيفي عن قسم العمليات في الأركان العامة للجيش، ويجب ذكر أنه المحرض الأساسي في المؤسسة على سياسة “ترانسفير طوعي”، وبالتأكيد شارك آخرون عن الشرطة والجيش؛ لتداول كيفية التعامل مع العرب الفلسطينيين في أزمة الطوارئ، استعدادًا للحرب القادمة. إذ إن المنطقة شهدت تصاعدًا تدريجيًا للتوترات الحدودية بين إسرائيل وسورية منذ الأول من أيار في العام ذاته، على أثر ازدياد النشاطات الفدائية، وتلا ذلك تهديد إشكول في التصعيد والحرب، واستمر التصعيد تدريجيًا حتى يوم قبل الاجتماع في مكتب “وزارة الأمن”، إثر إعلان الرئيس جمال عبد الناصر إغلاق مضائق تيران بوجه السفن الإسرائيلية. على هذا الأساس أصبحت الحرب أمرًا واقعًا ومن الصعب تجنّبها، وبالتالي أصبحت رهن القرار السياسي، حيث أن إشكول لم يرد اتخاد قرار لوحده من القيادات رفيعة المستوى للمشروع الصهيوني، وبعد ضغط شعبي نحو الحرب، عينت الحكومة موشيه ديان “وزيراً للأمن” (أو للدقة التاريخية وزيرًا للحرب).
وخلص الاجتماع إلى عدة توصيات متعلقة بالتعامل مع العرب الفلسطينيين، حيث أن هذه التوصيات تعيد إنتاج صورة “خطر غير المتوقع”، و”التهديد من الداخل” الذي يجب الاستعداد لذلك، وهذا يرتبط بأن النخبة الحاكمة الاستعمارية الاستيطانية تعيد إنتاج هذه الصور حول الفلسطينيين تحت المواطنة، وبالموازاة تعمل على بناء هوية ومجتمع خاضع تحت عنوان “العربيّ الإسرائيلي” أو “العربي الجيد”، كلا العمليتين تتناسقان، من حيث أولًا إضعاف اختراق وتقليص حجم القوى الوطنية في الداخل، وتقوية وتدعيم وتثبيت المتعاونين والعملاء.
توصيات الاجتماع
1. إعداد قائمة 40- 45 بأسماء الشخصيات القيادات السياسية ذات التوجهات الوطنية ويتم اعتقالهم عند بدء العدوان ويتم تفريقهم في السجون.
2. يتم فحص مخيم عتليت، الذي تملكه الوكالة اليهودية، من أجل استيعاب مجموعات كبيرة جدًا للعرب وقت الحاجة، وسيتم الإشراف على ذلك من قبل الجيش والشرطة.
3. مع بدء العدوان، ضابط الجيش في كل منطقة، مخول لتفعيل وتنشيط صلاحياته حسب قانون الطوارئ، مثل إغلاق مناطق كاملة، وإعلان عن منع تجوال.
4. قسم العمليات في الجيش مع وزارة البريد، عليهم تقديم برنامج وأجندة إغلاق وإقفال بث التلفزيون لمناطق معينة.
5. مستشار شؤون العرب بمكتب رئيس الحكومة، يقوم بتفعيل لجنة شؤون العرب التابعة له.
البنود الخمسة لم تكن فقط راهنة للسياقات العدوان عام 1967 بل هي استمرار لمنظومات الحكم العسكريّ بشكل بارز. وهي جاءت بناءً على البنية ذاتها الاستعمارية الاستيطانية. جاءت في البداية توصية اقتلاع القيادة الوطنية السياسية من بين الجماهير الفلسطينية، حيث لا يوجد من يقود الميادين والشوارع، ومثالًا على ذلك نذكر اعتقال توفيق زياد أثناء بدء العدوان. الهدف الأساسي من البند هو تقوية القيادة الموالية للدولة، من أجل العدوان وما بعد ذلك، حيث أن القيادة التقليدية هي ما زالت تخوض معركة البقاء والاستمرار خصوصًا في ظل تصاعد القوى الوطنية.
لننظر أيضًا إلى البند الثاني والثالث، الأكثر أهمية لفهم أسس التعامل مع المواطنين الفلسطينيين، من خلال استهداف وجودهم على الأرض: اقتراح تحويل “مخيم عتليت”، وتأسّس إبان الانتداب البريطاني، بهدف استيعاب “المهاجرين اليهود” ويتسع للآلاف. إذن، الخطة الإسرائيلية هي اعتقال واحتجاز آلاف الفلسطينيين وتجميعهم لأهداف غير واضحة في التوصيات. ثم البند الثالث وهو تفعيل أهم الأدوات القانونية المستخدمة فترة الحكم العسكري: إغلاق مناطق بهدف مصادرة أراضي، هدم قرى مهجرة، ويعزز بدوره إعاقة الحركة. وعلينا التدقيق بالبند الرابع، وهو مهم جدًا لجهة تواصل الفلسطينيين مع محيطهم العربي، وتعزيز التقسيم والعزلة وتصور أن المصير الوحيد أمامنا هو إسرائيلي فقط، تحول هذا البند إلى سياسة منهجية من حيث التأثير على المضامين في التلفاز والراديو ثم السينما والمسرح والإنتاج الثقافي وخلق قطيعة والتأثير بالتالي على النخب والقيادات المستقبلية.
البند الخامس ضبابيّ من ناحية ومنزوع البعد السياسي والأمني، بدون أن أجزم هذا البند يعتبر الإطار أو الجزء العمليّ لجميع البنود السابقة، وتحويلها إلى سياسة بنيوية في التعامل مع العرب، وبناء لجنة تستطيع التعامل مع العرب بشكل دائم، وتعيد إنتاج الصورة حول “الخطر من الداخل” من خلال الحرب وما بعدها، كي تستطيع السلطات استهداف الفلسطينيين واستخدامهم كرهينة سياسية في أوقات “الطوارئ” وهي تعني العدوان والتوسع الاستعماري.