تواجه “المحكمة الجنائية الدولية” امتحانًا عسيرًا في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. لقد ذكرت الوثائق التأسيسية أن وظيفة هذه “المحكمة” هي محاسبة الدول والأفراد المسؤولين عن ارتكاب “الجرائم ضد الإنسانية” و”جرائم الحرب” و”جريمة الإبادة الجماعية”. لكن “المدعي العام” فيها، كريم خان، أعطى “الجيش الإسرائيلي” مهلة سبعة أشهر كاملة (8 تشرين الأول 2023 ـ 20 أيار 2024)، حتى يأتي بـ”النصر الحاسم” من خرائب غزة. ولما تزايدت ضغوط حركة التضامن العالمية مع الفلسطينيين، اضطر خان إلى طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع فيها يؤاف غالانت، إضافة إلى مسؤولين في المقاومة الفلسطينية.
حرّكت الخطوة التي اتخذها خان الأسئلة الكبيرة عن وظيفة “المحكمة” وسائر “القضاء الدولي”. ومن أهمها:
ـ أولًا، ألّا تبدو “المحكمة” معلقة بـ”النظام الدولي الأحادي القطب” القديم، الذي يخضع لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية “الحرب الباردة” بانتصارها على الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991.
ـ ثانيًا، هل أن تلكؤ “الموظفين ـ القضاة”، ومنهم كريم خان، شخصيًا، في التصرف إزاء تلك الحرب الإجرامية على غزة، هو الدليل الوحيد على انحياز “المحكمة” ضد “النظام الدولي المتعدد الأقطاب” الناشئ حاليًا.
“المحكمة” بين حدَّي الاستقواء والاستضعاف
بعد طلب المدعي العام إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، إضافة إلى مسؤولين في المقاومة الفلسطينية، صوّت مجلس النواب الأمريكي، يوم 5 حزيران الجاري على قرار فرض “عقوبات” على مسؤولي “المحكمة الجنائية الدولية”. رغم أن خطوة خان افتقرت إلى الأخلاق والإنصاف بمساواتها الجلاد بالضحية.
زاد القرار، الذي لقي حفاوة في الإعلام الإسرائيلي، نقمة مؤسسة الحكم الأمريكي على خان و”المحكمة”. أول هذه النقمة جاء من وزير الخارجية أنطوني بلينكن، الذي قال في بيان رسمي: “نرفض مساواة المدعي العام بين إسرائيل وحماس. إنه أمر مخزٍ”. كما أبدى بلينكن “استعداد الإدارة للعمل مع الكونغرس على فرض عقوبات بحق مسؤولي المحكمة، بعدما طلبوا إصدار تلك الأوامر”.
وبعد يومين كرر الرئيس جو بايدن رد وزيره، وقال “إن الولايات المتحدة لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية وإنه لا يمكن المقارنة بين إسرائيل وحركة حماس”. ويبدو أن نقمة واشنطن قد فعلت فعلها في نفسه. فعقب كلام بايدن، ظهر كريم خان في مقابلة صحفية عديم الضمير، يتسول الرضى الأمريكي (ـ الإسرائيلي) عنه، إذ ردد بِكل ضِعَةٍ نص الموقف الأميركي: “لا أقول إن إسرائيل بديمقراطيتها ومحكمتها العليا شبيهة بحماس، بالتأكيد، لا”.
ردود بلينكن ورئيسه بايدن ثم المشرعين الأميركيين على طلب خان من “المحكمة” توقيف مسؤولين “إسرائيليين”، تبرهن أن “التزام الولايات المتحدة الحديدي (Ironclad) بأمن إسرائيل” قاطع. فضلًا عن ذلك، فإن قادة الكيان الصهيوني، يتمتعون بحماية الولايات المتحدة من “المحكمة” بموجب تشريعات أمريكية صدرت وقت تأسيسها عام 2002.
لدى المواطن العربي وأنصار فلسطين في العالم، البراهين الساطعة على التزام أمريكا بأمن “إسرائيل”. يكفي هؤلاء أنهم يصبحون ويمسون على كثافة المشاركة الأميركية في قيادة وتنفيذ حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. إلا أن إثبات هذه البديهية السياسية سيبقى مشوشًا، إذا لم نلحظ أن تخاذل كريم خان عن نصرة الحق الفلسطيني، قد ساعد هرم السلطة في واشنطن، على ضبط “الميدان القضائي الدولي” لصالح حكومة اليهود الصهاينة وجرائمها.
مع جلاء هذه البديهية، ينكشف أمامنا هيكل الروابط الدقيقة التي تجمع “الجنائية الدولية” بنظام الهيمنة الأمريكية / الغربية الذي تعد “إسرائيل” إحدى أركانه. فـ”المحكمة” مذ قيامها، عملت ضد سيادة الدول الضعيفة في “النظام الدولي الأحادي القطب”، بحيث صار “القضاء الدولي” بابًا إلى إنعاش السياسات النيوكولونيالية التي اتبعتها واشنطن ولندن وباريس.
إن محاباة “المحكمة الجنائية الدولية” للمصالح الأميركية والغربية، قد جعلها سلاحًا ذا حدين. وبين حدّ الاستقواء وحدّ الاستضعاف، تحركت “المحكمة” بشكل استفزازي بمواجهة العرب في السودان وليبيا، ولبنان وحتى في سوريا. كما أسفرت “مبادراتها” ضد الأفارقة في أوغندا وإفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وكينيا ومالي، عن دعوة “منظمة الاتحاد الأفريقي” أعضاءها إلى الانسحاب الجماعي من “المحكمة”.
“المحكمة” و”النظام الدولي الأحادي القطب”
إن استضعاف هيئة “المحكمة” للدول المذكورة وغَبْن حقوقها السيادية، ناجم عن تكيفها، كما تكيف سائر هيئات الأمم المتحدة و”القضاء الدولي”، مع “حاجات” هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على نظام العلاقات الدولية الأحادي القطب، الذي كان نشأ على أنقاض النظام الدولي الثنائي القطب الأمريكي ـ السوفياتي (1945 ـ 1991). كما شاب “الجنائية الدولية” فور ولادتها، بعض السمات “الخلقية” وأبرزها الضعف التكويني إزاء الدول الكبرى مثل الصين وروسيا وكذلك أمريكا والهند، التي رفضت جميعها الاعتراف بالولاية القضائية لـ”المحكمة” على أفعالها وأفعال مواطنيها حماية للسيادة القومية وحرصًا عليها.
كان التكيف يعني الانضباط الشديد في تأمين المصالح الأمريكية (ـ الإسرائيلية) والغربية على “جبهة القضاء الدولي”.
لقد ازدرى رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون “المحكمة” و”المدعي العام” في بيان رسمي، قال فيه إن حكومة بلاده “ترفض السماح للبيروقراطيين الدوليين [أمثال خان وغيره] بإصدار أوامر اعتقال للقيادة الإسرائيلية”. وهذا الازدراء العقابي لم يحصل للمرة الأولى في تاريخ علاقة النظام الأمريكي بـ”البيروقراطيين الدوليين”. فقد فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا في حزيران/ يونيو عام 2020، يقضي بـ”حظر أصول موظفي المحكمة الجنائية الدولية ومنعهم من دخول البلاد”. وكان المستهدف بتلك العقوبات “المدعية العامة السابقة” فاتو بنسودة ومسؤولين كبار آخرين في “المحكمة”. وبالفعل، سرى مفعول قرار ترامب بعد ثلاثة أشهر من إعلانه.
كانت “خطيئة” بنسودة أنها قررت التحقيق في “جرائم حرب”، ارتكبها جيش الاحتلال الأمريكي في أفغانستان، وكذلك، جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. فسخط وزير الخارجية في حينه، مايك بومبيو، على “المحكمة” واتهمها ببذل “محاولات غير مشروعة لإخضاع الأمريكيين لولايتها القضائية”. كما استنكر محاكمة العسكريين الإسرائيليين على جرائمهم أمامها، لـ”أننا ـ حسبما قال ـ لا نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلين كدولة ذات سيادة، للحصول على عضوية كاملة في المنظمات الدولية، بما فيها محكمة الجنائية الدولية”.
بعد اختفاء الغامبية بنسودة من أروقة “القضاء الدولي”، استردت “المحكمة” الثقة الأمريكية بها في عهد بايدن، عقب انتخاب البريطاني كريم أحمد خان خلفًا لها يوم 12 شباط 2021. وكان أول إنجاز قضائي للمدعي العام الجديد، هو إغلاق ملف التحقيق بـ”جرائم الحرب” التي يحتمل أن يكون الجيش الأمريكي قد ارتكبها بحق الشعب الأفغاني، الذي كانت بنسودة قد فتحته. بما فيه الجرائم المماثلة التي ارتكبها “الجيش الإسرائيلي” ضد أبناء وبنات الشعب العربي في فلسطين.
مخاض “النظام الدولي المتعدد الأقطاب” وإعادة تشكيل الجيوبوليتيك
قبل مبادرة أمريكا و”إسرائيل” إلى شن حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ 8 تشرين الأول 2023، حضرت “المحكمة الجنائية الدولية” في السياق الجيوبوليتيكي للأزمة الأوكرانية. فقد أطلق تحرك روسيا لوقف تقدم جيوش حلف شمال الأطلسي نحو حدودها الغربية والجنوبية، ديناميكية جديدة في نظام العلاقات الدولية، نحو ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، يضعف الهيمنة الأمريكية والغربية في العالم المعاصر. ونتذكر أنه قبل أن تبدأ روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، في 24 شباط 2022، كانت الأزمة السياسية في أوكرانيا قد بدأت تستعر منذ عام 2010، حينما توجه الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش إلى “بناء علاقات شراكة استراتيجية وطيدة وطويلة المدى مع روسيا”. وبحسب تقرير الراديو البريطاني الحكومي (بي بي سي)، فإن “المراقبين الدوليين قد شهدوا بشفافية ونزاهة الانتخابات” التي فاز بنتيجتها يانوكوفيتش. وقد اعترفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنتائجها. لكن “ثورة الميدان” التي تصدر صفوفها صهاينةٌ من أمثال الفرنسي “الفيلسوف” برنارد هنري ليفي ومساعدة وزير الخارجية الأمريكي فيكتوريا نولاند أطاحت يانوكوفيتش في عام 2014.
المهم، أنه بعد عشر سنوات، سوف يمتدح الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي تظاهرات ثورة الميدان تلك، ووصفها بأنها كانت “النصر الأول في الحرب مع روسيا”. إلا أن هيئة “الجنائية الدولية”، مثل كل الصهاينة، تنكر سياق التاريخ السياسي (contextualization)، بل تطمسه، لأنها متشبثة بقواعد النظام الدولي الأمريكي الأحادي القطب دون سواها. وقد رأينا كيف أن مذكرة اعتقال الرئيس فلاديمير بوتين قد صدرت عن “المحكمة” يوم الجمعة في 17 آذار 2022، أي بعد ثلاثة أسابيع على اندلاع القتال في أوكرانيا، حينما كان كريم خان قد أتم العام الأول في منصبه.
“المياه تكذب الغطاس”؟
نحن نجهل ما جرى في كواليس الأمم المتحدة وحولها لكي “ينتخب” كريم خان “مدعيًا عامًا”. لكن سيرته الذاتية تشير إلى تمرسه في عمل “المحكمة” لسنوات طوال قبل ذلك. فـ”على مدى ثمان وعشرين عامًا، كان مستشارًا لملكة بريطانيا، ومدعيًا عامًا، ومحاميًا عن الضحايا ومحامي دفاع في محاكم وطنية ودولية”. لأن “كريم خان يحمل درجات علمية في القانون من كلية كينغ وجامعة لندن، كما درس القوانين الإسلامية ودرّسها”.
لقد أطبق “مدرِّس القوانين الإسلامية” فمه، حينما وصف النواب الأمريكيون “محكمة” خان بـ”المحكمة غير الشرعية“. بل إن “المدعي العام” عندما قرر بناء محضر اتهام بشأن “جرائم الحرب” في قطاع غزة، أنزل قادة المقاومة الفلسطينية يحيى السنوار ومحمد الضيف في منزلة واحدة بجانب نتنياهو وغالانت وسواهما من مجرمي جيش الاحتلال الصهيوني الذي يرتكب المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، بدعم أمريكي سافر.
إن القتال الدائر في غزة بين الفلسطينيين وحلفائهم و”الإسرائيليين” وحلفائهم، يشكل بؤرة من بؤر الصراع الإقليمي/الدولي لإعادة تشكيل الجيوبولتيك الإقليمي/ العالمي، بين من يريدون التحرر من إسار النظام القديم الأحادي القطب، ومن يتمسكون ببقاء هذا النظام وإجهاض ولادة النظام الجديد المتعدد الأقطاب. وهذا هو سبب صمت كريم خان الطويل على حرب الإبادة الجماعية التي “تنظمها” تل أبيب وواشنطن في قطاع غزة. فهو، شخصيًا، متواطئ مع “سادة” النظام القديم، “أبطال” هذه الحرب الإجرامية المستمرة منذ ثمانية أشهر.
إن اتهام هذا “المسلم البريطاني” الذي هرع إلى استضعاف بعض الشعوب بسيف “العدالة الدولية”، بتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الصهيوني لبلاده، ليس جزافًا ولا زيفًا. إذ إنه بقي متغاضيًا عن جرائم الجيش الأمريكي ضد الشعب العربي وشعوب المسلمين من بعد 11 أيلول 2001، رغم هول نتائج الدراسة الإحصائية التي أصدرتها جامعة براون في الولايات المتحدة في شهر أيار 2023، عن أعداد الضحايا العرب والمسلمين المدنيين الذين سفك الجيش الأمريكي دماءهم، أثناء حروبه المدمرة التي شنها على العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن، وفي أفغانستان وفي باكستان أيضًا. حيث تفيد هذه النتائج بأن تلك الحروب العدوانية الظالمة التي شنت منذ ذلك التاريخ، قد هدرت حيوات نحو 4,5 مليون ضحية، كما أكرهت 38 مليون مواطن من تلك الدول على النزوح أو اللجوء عن أوطانهم وديارهم.
فإذا لم تكن مجازر “الجيش الإسرائيلي” في قطاع غزة ومجازر الجيش الأمريكي في بلاد العرب والمسلمين من صنوف “الجرائم ضد الإنسانية” و”جرائم الحرب” و”جريمة الإبادة الجماعية”، فكيف تكون تلك “الجرائم” بل ما هي “الحرب” وما هي “الإنسانية”. لا بد أن كريم خان حينما قال أن “القانون الدولي لا يمكن أن يقف موقف المتفرج السلبي، ولا يمكن أن يكون خامدًا”، إنما قصد “القانون الدولي” الذي جعله وأمثاله من “البيروقراطيين الدوليين” أداة لتوسع نظام الهيمنة الإمبريالية الأمريكية ـ الغربية وتزيين “الوجه القبيح لأمريكا“.
إن فشل “المحكمة الجنائية الدولية” في إحقاق العدالة للشعوب والدول التي تجاهد هذا النظام الإستبدادي، قد جعل المقاومة الوطنية لا “المحكمة”، من أهم الديناميات الإجتماعية ـ السياسية لإقامة نصاب العدل الإنساني. وهنا نستحضر المثل الشعبي القائل: أن “المياه تكذب الغطاس”. وقد كذبت “الغطاس كريم خان” فعلًا. نقول ذلك، رغم الأنباء الجديدة عن احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال لنتنياهو وغالانت. وبانتظار رد المقاومة التي وعدت بالإجابة على مذكرات “المحكمة” ضد قادتها.