لا أعني بالأيديولوجيا في عنوان هذا المقال مجموعة الأفكار التي يعتنقها الإنسان ويعلن عنها، أو لا يتوقف تعريف الأيديولوجيا لدي عند ذلك.
ليست أيديولوجيا “القسام”، بحسب ما يعنيني في هذا المقال، مجموعة الأفكار التي ورثتها حركة حماس عن الشهيد عز الدين القسام أو عن حركة الإخوان المسلمين أو عن غيرها من التجارب الإسلامية أو التحررية، أو كل هذا بالنسبة لي ليس سوى سطح أيديولوجيا “القسام”.
أتحدث عن الأيديولوجيا هنا بمعناها الأعمق كما حاولت الفلسفة السياسية استكشافها، أي رؤية الإنسان للحياة، ومجموع الأفكار والانحيازات والصور التي يرى الإنسان من خلالها العالم ومكانه فيه وتتشكل من خلالها معاني الأشياء، والتي لا تتشكل كلها بشكل منطقي، ولكن تتشكل كذلك على مستوى العاطفة واللاوعي؛ والتي تتشكل كذلك ضمن ممارسات مادية تجعل من الأيديولوجيا واقعًا ملموسًا.
وليس الهدف بالضرورة استكشاف “ما هي الأيديولوجيا التي تشكّل رؤية كتائب القسام للعالم” ولكن “ما هي الرؤية الأيديولوجية التي تقدّمها كتائب القسام لسائر العالم.”
استطراد فلسفي
وللقارئ الذي يضجر من الفلسفة، أو يعرفها جيدًا، أن يترك هذا القسم إلى ما يليه.
أتحدث عن الأيديولوجيا هنا كما عرفها الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (وهو بالمناسبة من القلائل في اليسار الفرنسي الذين صدعوا بتأييد المقاومة الفلسطينية إذ رأى أن “الشعارات المحقة” مثل “عاشت المقاومة الفلسطينية” ينبغي أن تكون في مقدمة الشعارات التي يرفعها الحزب الشيوعي الذي كان عضواً فيه – لا ألجأ هنا إلى ألتوسير لتبرير المقاومة ولكن بالعكس ألجأ إلى موقفه من المقاومة لتبرير الاستشهاد به في هذا الموضع).
الأيديولوجيا عند ألتوسير هي المنظور الذي يرى الإنسان منه العالم، وهي مجموعة القواعد التي يفسر الإنسان العالم من خلالها: يعني عندما تقرأ عزيزي القارئ هذه الكلمات، فإنها تعني شيئًا لك لأن هناك منظومة معينة تعطي الكلمات معناها: هذه المنظومة لغوية كما هو واضح، لا ترتبط فقط باللغة العربية ولكن أيضا بالتجربة الثقافية التي تجعلنا نعرف، أو نتعارف فيما بيننا، مثلاً، أن ثمة ما يسمى “مقالة”، أو أن هناك ظاهرة نسميها “المقاومة” تتخطى المعنى الحرفي للكلمة في اللغة العربية وتستمد معناها من تجربة تاريخية مرتبطة بعلاقتنا بالقضية الفلسطينية وبقضايا تحررية أخرى— ولو قلنا هذه الكلمة لعربي من العصر الجاهلي أو صدر الإسلام أو حتى من العصر العثماني لكان لها معنى آخر تمامًا. وهي أيضًا منظومة ترتبط بالصور. وعيُنا بما تعنيه كلمات مثل “مقالة” أو “مقاومة” لا تنفصل عن منظومة الصور التي تحدد علاقتنا بالمعنيين: صورة الجريدة، على سبيل المثال، حتى ونحن نقرأ هذه المقالة على موقع إلكتروني، أو صورة “المقاومين” (في خطوط المواجهة، مثلًا، أو في المتاريس، أو أثناء التدريب، وكل ما يتبعها من صور لأدوات وأحداث نعتادها محيطة بالمقاومين) التي نقلت لنا معنى المقاومة منذ كنا صغارًا عبر وسائل الإعلام.
وإن أخذنا صورة وحاولنا فهمها فإن فهمنا لها لا يمكن فصله عن اللغة التي نفهم الصورة من خلال مفرداتها، ولا عن الواقع الذي تنقله الصورة أو ترتبط بشكل ما به. مرة أخرى، إن عدنا إلى صورة المقاوِم، بما أن هذا هو محور حديثنا اليوم، فإن اخترنا أي صورة لمقاوم من فلسطين أو من أي مكان يقاوم الاستعمار والاستكبار فإن وعينا بهذه الصورة لا ينفصل كذلك عن وعينا بكلمة “المقاومة”، وبكلمات مثل “الكوفية” و”الملثم” أو “المقنع” إن كان هذا المقاوم ملثمًا أو مقنعًا، بل إن فهمنا لمعنى الصورة قبل حتى أن نصل لمغزاها السياسي لا يمكن أن ينفصل عن وعينا بمفاهيم لغوية مثل “الإنسان” و”السلاح” وما إلى ذلك.
ولأن هاتين المنظومتين، أو لأن هذه المنظومة المزدوجة من الصور والدلالات اللغوية، لا يمكن أن تكون محايدة، ولا بد أن تتدخل فيها علاقات القوة والسلطة والانحيازات السياسية فلا تنقل الواقع كما هو (إلا مع كثير من النقد يجردها من انحيازاتها) فإن هذه المنظومة التي تنقل المعنى هي منظومة أيديولوجية، أو هي أساس الأيديولوجيا؛ خاصة وأن منظومتي اللغة والصور تخضعان لتراتبية تعلي من قيم مفاهيم وصور مثالية معينة.
لم يقدم ألتوسير القول الفصل في ما هي الأيديولوجيا – ولم يهدف إلى ذلك وإنما أراد تقديم “ملاحظات من أجل دراسة [مستقبلية]” كما أشار في عنوان مقاله، ولكي نفهم الأيديولوجيا في سياقها الاستعماري يجب أن نفهم، على نهج فرانز فانون، ما تلغيه أو تخضعه وتلزمه منزلة أدنى، فصورة البطل الهوليوودي الأبيض تستدعي بالضرورة نقيضها “الشرير”؛ العربي أحيانًا، المسلم أحيانًا، الإرهابي أحيانًا، المُقَنّع أحيانًا.
فتصبح عنصرية الرجل الأبيض ضد سواه لا انحيازًا طارئًا وإنما جزءًا أصيلًا من المنظومة التي يعي ذاته من خلالها، كما تزرع هذه المنظومة في كل ما عدا الرجل الأبيض بغضًا للذات: ولا أقول إن ذلك يعني ألا مهرب من هذه المنظومة بل على العكس أقدم في هذا المقال تحليلًا لما يمكن أن تشكله ثقافة المقاومة من منظومة بديلة لا تخلق فقط انحيازات طارئة لفلسطين أو لعموم المستعمَرين والمستضعفين ولكن تزرع في نفس الإنسان تماهيًا أصيلًا مع هذه القضايا المحقة، وأيدولوجيا جديدة قائمة على العدل لا القوة.
الصراع على الصورة
انتشرت في أول الحرب فيديوهات طريفة لأطفال، بعضهم دون سن الكلام أو يكادون يحسنونه، يظهرون الحب والألفة نحو صورة أبو عبيدة (أو من يشبهه. في أحد الفديوهات ترى طفلةٌ رجلًا قد تلثم أثناء عمله فتصرخ فرحة “عبيدة”).
هذه الفيديوهات لها دلالة أبعد من كونها تثلج القلب، إذ تشير إلى علاقة نفسية مع الصورة تكاد تكون سابقة على مرحلة تشكل اللغة والوعي اللغوي: مدرسة التحليل النفسي التي تستند إليها نظرية الأيديولوجيا تقول إن الوعي بالصورة يتشكل قبل الوعي باللغة مما يجعل العلاقة بالصورة أكثر عمقًا وأقل خضوعًا للمنطق- الذي يتشكل بعد ذلك استنادًا على اللغة؛ وإن الصورة المثالية تصبح مثلًا أعلى يشعر المرء كأنها تكمل ذاته.
ومن هنا فإن فيديو الطفلة التي تقول إنها ذاهبة إلى فلسطين وإلى أبو عبيدة يمكن أن نقرأها، من باب الإيديولوجيا والتحليل النفسي، كإعادة تمثيل لهذه العلاقة مع الصور المثالية التي تصبح شيئًا يذهب الإنسان إليه منذ طفولته.
هذه العلاقة هي مع صورة تناهض السائد، ليس فقط لأنها صورة مقاوم ضد الإمبريالية التي تخلق الصورة المثالية، وتوزعها ثم تفرضها علينا، ولكن أيضًا لأنها صورة مقنّع تناهض النمط الأيديولوجي الليبرالي القائم على التماهي مع صورة فردية نعرف ملامحها؛ وذلك أمر جديد وقد تكون له تبعات، عندما يكبر هذا الجيل، تجبرنا على إعادة التفكير فيما لدينا من أدوات تحليلية.
إلا أن هذه العلاقة الجديدة ليست قاصرة على الصغار؛ من منا لم يشعر بهذه الألفة التي تختلط بالهيبة ونحن نستمع إلى خطابات أبي عبيدة؟ ومنا من يقف احترامًا كلما استمع إلى خطبه ومنا من يؤدي التحية العسكرية له أمام الشاشة. ظهرت هذه العلاقة كذلك في مظاهرات التضامن في الغرب. فبينما لم يكن التلثم أو التقنع في المظاهرات أمرًا غريبًا (إما لاتقاء الملاحقة الأمنية أو لتقديم رسالة سياسية، أو مؤخرًا من بعد وباء الكورونا من أجل الوقاية من انتشار العدوى وللتأكيد على أن الاحتجاجات مساحة آمنة لمن هم أكثر عرضة لنقل المرض) إلا أن التلثم في المظاهرات أخذ رمزية مختلفة من بعد السابع من أكتوبر، وأصبح المتظاهرون يتلثمون بالكوفيات الفلسطينية تحديدًا (ومن تحتها أحيانًا لثام الكورونا) بل وأصبح إتقان ربط اللثام على الطريقة الفلسطينية إحدى المهارات المكتسبة ضمن الاعتصامات.
بالطبع ساهم في ذلك توحش القبضة الأمنية الغربية والتي جعلت المتظاهرين بحاجة إلى إخفاء هوياتهم: الأيديولوجيا ليست خيالًا أو رمزًا فحسب، وإنما هي التقاء لما هو رمزي مع ما هو مادي وعملي.
وكما تلثم المتضامنون في بلاد الغرب اقتداء بأبي عبيدة والمقاومين، فقد رفعوا كذلك صوره وعلقوها في أماكن اعتصامهم: ظهور صورة أبو عبيدة كأنه ينادي على المارين (وأحيانًا كأنه يشتمهم مع قوله “يا حثالة الأمم” مصاحبًا لصورته)، وفي بعض الأحيان صور للمتظاهرين وهم ينظرون إلى صورته (انتشرت إحداها، على سبيل المثال، على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تعليقات تقول ما معناه “مثلي الأعلى”)، تجسيدٌ لهذه العلاقة، الأيديولوجية مع المقاومة والصورة المثالية التي تخلقها وتنادي على الناس من خلالها.
للعلاقة مع صورة أبي عبيدة جانب واع جدًا يتعلق بتعطشنا لمعرفة تفاصيل المعركة من لسان موثوق وحاجتنا النفسية إلى أن نستمع إلى الأخبار من وجهة نظر المقاومة، ولها جانب أعمق: فصورة الملثم هنا تستحضر ميراثًا يرتبط بالكوفية الفلسطينية واللثام وصور الانتفاضتين الأولى والثانية، وهي في نفس الوقت تكثف معنى التحرير على أكثر من مستوى، تختزل تاريخ وحاضر المقاومة وحلم التحرير من جهة، وتشكل انعتاقًا من ربقة الصورة الهوليوودية من جهة أخرى.
تضع العلاقة مع صورة الملثم حدًّا فارقا بين من يتمسكون بالأيديولوجيا الغربية، ومن يريدون نزعها عن أعناقهم، وأن يتبنوا، من خلال منظومة صورية مضادة، أيديولوجيا مقاومة. هذه العلاقة تقاوم الأيديولوجيا السائدة مقاومة مزدوجة: إذ تقاوم، من ناحية، تلصص السلطة وإصرارها على مراقبة الناس ونزع اللثام—مجازًا وحرفيًا—عنهم ومن ثم ملاحقتهم أو تجريمهم إذا لزم الأمر؛ ومقاومة للصورة المثالية الفردية التي تريد السلطة أن تفرضها.
إن أيديولوجيا الملثم (وهنا تتشابه كتائب القسام مع الزاباتيستا على سبيل المثال) تقاوم الأيديولوجيا السائدة من خلال الإبهام في ملامح الوجه الذي يجعل من الممكن كسر العقيدة الفردية ومن الممكن المناداة على كل المستضعفين ليروا أنفسهم في ذلك الوجه الذي يشبه الكل إذ لا يشبه أحدًا.
وحتى في الغرب، حيث تزرع الثقافة السائدة الخوف من الوجه الذي لا تراه، يحيل اللثام كذلك إلى ميراث تحرري. فالغرب غربان، أحدهما يتبع التيار السائد من دون نظر، وهؤلاء هم الجند الأيديولوجيون للإمبراطورية، وغرب ينتمي إلى أحرار العالم يقاوم السائد مثلنا إما لأسباب طبقية أو وطنية-عرقية تحررية أو من باب الالتزام الأخلاقي (أو حتى حب المشاغبة؛ هؤلاء على أعتاب الوعي) هؤلاء قد تذكّرهم صورة الملثم بميراث آخر من الملثمين من الجيش الجمهوري الأيرلندي والزاباتيستا والمتظاهرين المناهضين في المظاهرات الكبرى المناهضة للرأسمالية.
تحرير اللغة
لا نحتاج إلى دلائل، ربما، على أن المقاومة تصيغ لغتها الخاصة وتنشرها: في عبارات مثل “الجدار الزائل” و”الكيان المؤقت” أو “لا سمح الله” التي أصبحت أشبه برمز مكثف ما بين أنصار المقاومة (ومثلها عبارة “لتقف تل أبيب على قدم واحدة” التي راجت بين أنصار المقاومة وفُرضت على أعدائها الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على تفسير مصطلحاتنا البلاغية ليفهموا التهديد)؛ ومثل “الصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد” و”إنه لجهاد نصر أو استشهاد” التي تحيل من خلال اللغة إلى تاريخ المقاومة وشخص عز الدين القسام وتاريخ الإسلام وإلى عالم المعاني الذي تنتمي أيديولوجيا المقاومة إليه.
والآن وفي ساحة المعركة، حتى أسماء المعدات العسكرية تحيل على تراث نضالي (مثل قذائف الياسين) أو على تراث إسلامي قرآني (مثل عبوات شواظ التي تحيل على قوله تعالى “يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران”، أو منظومة متبر للدفاع الجوي التي تحيل على قوله تعالى “وليتبروا ما علوا تتبيرا”، أو صواريخ رجوم “وجعلناها رجوما للشياطين”). هذا الأمر ينسحب، بطبيعة الحال، كذلك على التسميات التي يتبناها حزب الله؛ وإن لم يكن الحزب قد ابتعد يومًا عن تراثه وثقافته، فإن اختياره لتسمية “الهدهد” للمسيرة التي اختطت فتحًا حقيقيًا في عالم الاستخبارات، هو بالتأكيد عودة للمفاهيم القرآنية الجامعة في ظل هذه اللحظة الجامعة.
هنا نرى تضافر اللغة (بما تحمله من إرث ثقافي وتاريخ) مع المادة: مع البارود والحديد والقذائف والنار، ومع صورة هذه الأشياء كما نراها في فيديوهات المقاومة، لتصنع معنى جديدًا وعالمًا جديدًا.
لكن الأثر اللغوي للأيديولوجيا يتعدى اختيار المصطلحات إلى اللغة من حيث هي صياغة للمعنى، ولعلاقة الإنسان بالعالم ورؤيته لهذا العالم، من خلال مفردات مسموعة ومقروءة. ومن هنا نجد أن أيديولوجيا “القسام” قد أحدثت عودة إلى الإسلام.
لا أتحدث عن تجربة دينية أو إيمانية بالضرورة، وإن كان هناك من بين جمهورها من تدينوا أو التزموا دينيًا من بعد أن ألهمتهم المقاومة. ومن أعراض نفس الظاهرة دخول عدد من المتضامنين مع فلسطين الغربيين إلى الإسلام واهتمام البعض الآخر بقراءة القرآن أو بالتعرف، بعقل مفتوح، على بعض المفاهيم والممارسات الإسلامية– هذه ظاهرة انتقدها البعض واعتبرها نوعًا من التفاهة الفردية أو الانحياز الطائفي الذي يلغي الأطراف الأخرى الفلسطينية أو المناضلة، ولكن من لم يستسيغوا هذه الظاهرة لم يفهموا أنها عرض من أعراض ظاهرة أكبر، هي أن رأس حربة المقاومة العالمية ضد الإمبريالية مقاومة إسلامية وأن ثقافة المقاومة، وخطاب معاداة الاستعمار في هذه المرحلة من التاريخ، لا بد وأن ينحو منحى إسلامياً، وأن رؤية معسكر المقاومة للعالم تتأثر بهذه الثقافة. وهي تدل كذلك على تطور الخطاب الإسلامي ليعود خطابًا أمميًا وطليعيًا.
فالأثر الأيديولوجي لا يقتصر على الذين تدينوا أو أسلموا، بل يمتد إلى عودة النسيج الثقافي العربي-الإسلامي بوضوح حتى والمقاومة تصيغ خطابًا أمميًا ينادي على أحرار العالم، وحتى ونحن نخوض تجربة تضامن دولي غير مسبوق مع فلسطين؛ لغة التضامن الدولي نفسها أصبحت منفتحة على المفردات الإسلامية وعلى التجربة الجهادية (من بعد أن كانت لغة التضامن الدولي تنحو إلى نوع من نبذ التدين). هذه الصبغة الإسلامية الجديدة وصلت، على سبيل المثال إلى ظهور حديث “الجنة تحت ظلال السيوف”، نقلًا عن وصية أحد الشهداء، على إحدى خيم المعتصمين في جامعة كولومبيا، من ضمن ظواهر متعددة بدأت ، مثل انتشار تكبيرات العيد بأصوات المقاومين على حسابات التواصل الاجتماعي المؤيدة للمقاومة.
وفي المقابل، جندت هذه الأيديولوجيا مجموعات مسلمة مختلفة، في بلادنا وخارجها، كانت تحجم فيما مضى عن مسألة التضامن الأممي أو تجلس على أطرافها. أيديولوجيا “القسام” هنا تعمل في اتجاهين، إذ تعيد تموضع الخطاب الإسلامي في مكانه النضالي، وتعيد أسلمة الخطاب النضالي العربي والعالمي.
إلى الأمام
المسألة هنا ليست أخلاقية فحسب، وإنما تتعلق كذلك بقدرة التنظيم المقاوم على أن يتجه إلى جمهور أوسع وأن يطلب من هذا الجمهور الأوسع الانضباط تحت لوائه أو الاصطفاف خلف مشروعه: المسألة هي الفارق ما بين خطاب “تعالوا لنذبحكم” الداعشي و”تعالوا لنحارب المستكبرين” الذي تتبناه المقاومة. وهي في الوقت نفسه الفارق ما بين التجمعات الطلابية والسياسية المسلمة في الغرب التي كانت تنسق مع الأحزاب “اللبيرالية” وكانت تنظم فعاليات “الإيمان المشترك” مع جمعيات يهودية صهيونية، وبين الجمعيات المسلمة التي تقيم صلاة الجمعة في المظاهرات وتستلهم خطاب المقاومة لتعيد إنتاجه بحسب ظروفها المحلية. وضعت المقاومة الإسلام في مكانه الصحيح هنا وهناك.
لم تغير المقاومة الإسلامية الوضع بالشعارات واللغة، أو بالحجة والمنطق فحسب، بل من خلال هذا المزيج ما بين الواقع واللغة والصورة. وعندما يرى الواحد منا، على سبيل المثال، فيديوهات “القسام” التي ترينا ما يراه المجاهد—وصولًا في بعض الأحيان إلى لحظة موته في فيديوهات نشرها العدو من دون أن يدرك أثرها الأيديولوجي لمصلحة المقاومة؛ فإننا نرى الصورة بعين المقاومة، ونجد أنفسنا كما في ألعاب الفيديو مكان المجاهد، ولكننا نعلم كذلك أن الأمر واقع، وأن الصورة تستند إلى جهاد فئة مستضعفة من أجل الحق والعدل، بل وجهاد الإنسان ضد آلة القتل والدمار، وأن هذه الأحداث تدور على خلفية خطاب كتائب القسام ومنطقها.
وستثبت السنوات القادمة أي تأثير أحدثته أيديولوجيا “القسام”، وأي عقيدة وممارسة بثتها فينا وفي العالم.