منذ أحداث السابع من تشرين الأول، وجدت فرنسا نفسها، مثل غيرها من الدول الغربية، منقسمة بشدة حول القضية الفلسطينية. يطال هذا الانقسام جوانب مختلفة من المجتمع، من أماكن العمل والجامعات إلى أعلى مستويات صنع القرار.
في السنوات الماضية، كان ينظر إلى “الجيل زد” (المولودين بين 1997 و 2010) بازدراء وانتقاد من قبل الأجيال الأكبر سنًا لاستهلاكهم المفرط للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، ولأسلوب حياتهم الاستهلاكي المادي واللامبالاة والسلبية السياسية. ولكن ما شهدناه في الأشهر الأخيرة هو حرص هذا الجيل على ربط الحرب على غزة بالسلام المحلي في الدول الغربية، ودفع المجتمعات الغربية في عاصفة من المناقشات والانقسامات الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، ما شهدناه كنشاط خلال الأشهر الماضية، لا سيما في الجامعات المرموقة، أثبت أن جيل الألفية أقل ليبرالية في أفعالهم وخطابهم مما كان يُظنّ. لقد زاد الوعي بشرعية وضرورة المقاومة المسلحة والطابع غير الفعال للقانون الدولي والمؤسسات الدولية. من خلال التركيز على الأحداث الأخيرة في فرنسا، ليس هدف هذه المقالة المبالغة في تقدير أو تسليط الضوء على دور المقاومة غير المسلحة، ولكن للإشادة بالشباب في الغرب الذين استخدموا امتيازهم لإثارة الاضطرابات الدؤوبة وسط مناخ من التخويف. وكذلك بأولئك الذين اختاروا الحرب ضد العالم الرجعي القديم، من خلال وسائلهم المتاحة وقدراتهم الواقعية.
يكشف التاريخ الدبلوماسي الفرنسي في الشرق الأوسط، كما حلله الخبير البارز في العلاقات الدولية باسكال بونيفاس، عن تحالفات متغيرة. منذ عام 1948، دعمت فرنسا “إسرائيل” بقوة، جزئيًا لذنبها التاريخي بشأن الهولوكوست، وغالبًا لمصالحها الاستراتيجية في مواجهة العرب خلال وبعد الحرب الجزائرية. وتجسد هذا الانحياز في تعاون فرنسا مع “إسرائيل” والمملكة المتحدة خلال أزمة السويس عام 1956، إيذانًا بتحالف استراتيجي. ومع ذلك، تبنت فرنسا، تحت قيادة ديغول، نهجًا أكثر حذرًا، حيث حافظت على العلاقات مع “إسرائيل” مع التحذير من إثارة النزاعات وفرض حظر أسلحة عليها بعد حرب الأيام الستة عام 1967. وكما يشير بونيفاس، فإن هذا يدل على خروج كبير عن تحالف فرنسا السابق مع “إسرائيل”، مع توقع ديغول عواقب الصراع، بما في ذلك الاحتلال والمقاومة. واصلت الإدارات اللاحقة هذا النهج، بما في ذلك إدارات جورج بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان، على الرغم من انتقادات “إسرائيل”. جلبت رئاسة فرنسوا ميتيران ديناميكيات جديدة، حيث دعا إلى إقامة دولة فلسطينية في عام 1982، معترفًا بياسر عرفات كزعيم شرعي للفلسطينيين، وأكد هذا التحول التزام فرنسا بنهج متوازن في المشرق. أما رئاسة جاك شيراك، فاتخذت موقفًا فرنسيًا مختلفًا قليلًا، معترفة بالمسؤولية التاريخية للتعاون مع فيشي وترحيل اليهود في الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من اكتساب شعبية، في البداية، في العالم العربي لمواجهته مع الجنود الإسرائيليين في ما يسمى بالقدس الشرقية عام 1996، خفف شيراك لاحقًا من حدة الانتقادات الموجهة لـ”إسرائيل”. وفقًا للصحفي جورج مالبرونو، كان هذا في سياق خوف شيراك من رؤية المجتمع الدولي ينقسم بعد الرفض الفرنسي للمشاركة في التدخل العسكري في العراق، مما دفعه للاقتراب من الأمريكيين والإسرائيليين. استمر الرؤساء اللاحقون، بما في ذلك نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند وإمانويل ماكرون، في تجنب استياء الولايات المتحدة وإرضاء CRIF (مجلس مؤسسات يهود فرنسا) لتجنب الاتهامات بمعاداة السامية. في عام 2020، رحب ماكرون بـ “صفقة القرن” التي أبرمها الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب، وواجه تحديات في الحفاظ على توازنه الدبلوماسي مع الدول العربية و”إسرائيل”. عكست زيارة ماكرون للبنان في أعقاب انفجار بيروت محاولات فرنسا لإنقاذ النفوذ في الشرق الأدنى وسط ديناميكيات جيوسياسية متغيرة.
في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في الأراضي المحتلة، أثارت حكومة ماكرون الجدل بدعمها الثابت لـ”إسرائيل”. ووصف الرئيس ماكرون، في خطاب متلفز يوم 12 تشرين الأول، الأحداث بأنها “أكثر الهجمات الإرهابية مأساوية في تاريخ إسرائيل”. في نفس اليوم، أعلن وزير الداخلية جيرار دارمانين حظرًا منهجيًا لأي احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، مشيرًا إلى احتمال حدوث اضطرابات. ووصفت وسائل الإعلام الفرنسية العملية بأنها مذبحة، ونددت بها على أنها أعمال إرهابية. بالإضافة إلى ذلك، هدد دارمانين بترحيل الأجانب الذين يعبرون عن معاداة السامية وذلك بغض النظر عن وضع إقامتهم. وفي غضون ذلك، أرسلت وزارة التربية والتعليم رسالة إلى رؤساء الجامعات ومديري المدارس لاتخاذ موقف حازم ضد الأعمال المعادية للسامية: “أدعوكم إلى اتخاذ العقوبات التأديبية المناسبة والإجراءات القانونية لأي انتهاك، بما في ذلك من خلال إبلاغ المدعي العام”. كما تورط المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) في جدل، حيث لاحقت تقارير الأساتذة على أساس آرائهم. وقد أدى الجو السائد إلى اتهامات بالتحيز، لا سيما في ما يتعلق بتوصيف “حماس” بأنها منظمة إرهابية. باختصار، سيطر مناخ التخويف والقمع الاستبدادي على الفضاء الفكري والإعلامي والسياسي.
على المستوى الدبلوماسي، تابع ماكرون عرضه الدبلوماسي بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس. كما زارت رئيسة البرلمان الفرنسي يائيل برون بيفيه “إسرائيل” للتعبير عن “الدعم غير المشروط”، مما يشير إلى دعم فرنسا الثابت برد الكيان الصهيوني على “طوفان الأقصى”. ومع ذلك، يكشف مقال نُشر في صحيفة “لوموند” في الثامن من تشرين الثاني أن هذا الموقف المؤيد لـ”إسرائيل” وأمريكا في الإليزيه أثار القلق والاحتجاج في صفوف وزارة الخارجية وداخل الجهاز الدبلوماسي الفرنسي.
أثار الوضع جوًا مكارثيًا يتميّز بالرقابة وقمع الأصوات المعارضة. وقع أكثر من 1400 أستاذ في جميع أنحاء فرنسا، من بينهم متخصصون في الشرق الأوسط والعالم العربي، على عريضة تندد بالرقابة الفكرية المتعلقة بالحرب في غزة. وسلطوا الضوء على الآثار الخطيرة لخنق الحرية الأكاديمية والترهيب داخل الجامعات. وأدان أحد الباحثين الموقعين على العريضة قضية أن “أي بيان لا يبدأ بإدانة حماس كمنظمة إرهابية أصبح أمرًا مشكوك فيه”. من خلال رقابتهم الذاتية ورفض التحدث إلى وسائل الإعلام، يعرف المتخصصون في شؤون الشرق الأوسط أنهم يتنازلون عن الخطاب لصالح أولئك الذين يروجون لتفسيرات مبسطة أو متحيزة للوضع.
أما في حرم الجامعات، فالجو متوتر للغاية بين الطلاب الداعمين لفلسطين، وهم الأكثرية، والطلاب الصهاينة. يوم الإثنين 12 آذار، وكان يوم التضامن مع فلسطين في الجامعات الأوروبية، ما حصل في جامعة “سيانس بو باريس”، وهي الجامعة الأكثر مرموقية في العلوم السياسية والاجتماعية في فرنسا وفي أوروبا، أثار ضجة وجدالًا في كل الساحة الإعلامية ولدى كبار المسؤولين في الدولة؛ استحوذت “لجنة فلسطين” الطلابية على مدرج، وأعادت تسميته بـ”مدرج غزة”، وزينت أبوابه بالكوفيات وداخله بالأعلام الفلسطينية، واستضافت مناقشات حول فلسطين لمدة أربع ساعات. جاء ذلك بعدما رفضت الإدارة الرد على دعوتهم إلى الالتزام بالوقوف دقيقة صمت على ضحايا غزة ومطالبتهم الإدارة بإدانة الأعمال العدائية على القطاع ومطالبتها بوقف إطلاق النار. وتدخلت الإدارة بقطع الكهرباء خلال خطاب ألقاه شاب من غزة على شاشة المدرج لكونهم منعوا إقامة محاضرة من دون أخذ إذن. في البداية، مُنعت طالبة من “اتحاد الطلاب اليهود في فرنسا” من الدخول. نشر الاتحاد على منصة “اكس” أنها مُنعت من الدخول لكونها يهودية وصهيونية. واعترفت الطالبة لاحقًا لصحيفة “لو باريزيان” بالسماح لها بالدخول ونفت سماعها أي تصريحات معادية للسامية خلال الحادث، مدعية أن رفض دخولها هو في حد ذاته معاد للسامية. وفقًا لطلاب “لجنة فلسطين”، فإنها مُنعت من الدخول بسبب مضايقتها السابقة للطلاب المؤيدين لفلسطين من خلال تصويرهم ونشر صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي والتسبب في مضايقات إلكترونية من اليمين المتطرف. زارت وزيرة التعليم العالي إدارة جامعة “سيانس بو” لاتخاذ إجراءات ضد هذا الفعل المعادي للسامية، وأدان ماكرون الحادث خلال اجتماع لمجلس الوزراء. وبدوره، حضر رئيس الوزراء إلى الجامعة وأعلن تدخل وزارة العدل في التحقيق. حظيت القضية بتغطية إعلامية واسعة النطاق، مما أثار تعليقات معادية للإسلام وعنصرية. وردًا على ذلك، وقّع حوالي 2000 طالب من الجامعة عريضة دعماً للجنة فلسطين وتنديدًا بردود الفعل، فيما أدانت، في بيان، مجموعة من الطلاب اليهود في الجامعة استخدام اتهامات معاداة السامية لقمع الأصوات الداعمة لفلسطين وللتعبير عن مشاركتهم في ما قامت به “لجنة فلسطين”. بالإضافة إلى ذلك، وقّع حوالي 200 أستاذ وباحث عريضة تدعو إلى حماية الطلاب الناشطين من أجل فلسطين ونددوا بتدخل الحكومة باعتباره تهديدًا للحرية الأكاديمية. من الناحية السياسية، دافعت الحركة اليسارية “فرنسا المتمردة” عن لجنة الطلاب وانتقدت الجدل المصطنع الذي روجت له الحكومة ووسائل الإعلام، مدعية أن الغرض منه هو تشويه صورة الطلاب المعارضين للإبادة الجماعية.
أخيرًا، مهما كانت كلفة دعم فلسطين في الغرب، فلن تقارن يومًا بما يقدمه المقاومون في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان والعراق واليمن من تضحيات لأجل الحق. نحن العرب والمسلمون في الغرب مدينون أبدًا لغزة، ليس فقط لأنها تحارب العالم الاستعماري القديم نيابة عن العالمين العربي والإسلامي وعالم الجنوب، ولكن لأنها كشفت الأكاذيب حول الحضارة الغربية وأسقطت أقنعة جميع الفاشيين والعنصريين والمنافقين. لقد هزت غزة هذا العالم العنصري الظالم وقلبته رأسًا على عقب. أيقظت الشعور بالعدالة والكرامة عند الشباب في جميع أنحاء العالم، وحوّلت إلى غبار حلم الصهاينة بجعل القضية الفلسطينية منسية.