“انتقاد الأبوية محاكاة زائفة للتمرد، انتقاد إسرائيل ليس كذلك”-جاريد باور، شخصية إعلامية
يتحدّث الكاتب عامر محسن، في معرض تناوله لأسباب فشل الربيع العربي، عن العلاقة مع الحليف غير الواضح وأنها أكثر خطورة من العلاقة مع الغريم الواضح. الغريم الواضح سيعرض عليك مباشرة أن تصبح مواليًا لأمريكا وإسرائيل، أمّا الحليف غير الواضح هو من سيقدّم لك مساحة مجتمع مدني ومؤسسات بحثية وأكاديمية وإعلامية بديلة، لا بل ومعادية للإمبريالية، في دولة فيها أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة. هذه هي أزمة يسار “العدالة الاجتماعية”، سواء كان في العالم العربي (البديل) أو في الغرب، والذي انبثقت منه أطروحة النسوية التقاطعية القائمة على بناء تحالف من المقموعين، تقوده الطبقة الوسطى النسوية البيضاء في الغرب.
قد يدّعي البعض أنّ الحراك المطالِب بوقف إطلاق النار على غزة هو نجاح للنسوية التقاطعية، لكن هذا الادعاء ما هو إلا ركوب لموجة من الصعب تفسيرها كظاهرة. ليس كل المناهضين لإبادية دولة الأمن القومي في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية الداعمتين لـ”إسرائيل” هم من يسار العدالة الاجتماعية، بل نحن نتحدّث هنا عن طيف كبير من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين: فقراء السود والبيض، والمهاجرين، والكارهين للحزبين الجمهوري والديمقراطي، والمسلمين الأمريكيين المعادين لسياسات يسار العدالة الاجتماعية، وجنود سابقين في “المارينز”، وواقعيي العلاقات الدولية، وناقدي السياسة الغربية في حرب أوكرانيا، والمتظاهرين السابقين ضد حرب العراق، كلّهم خرجوا رفضًا لسياسات جو بايدن؛ الرئيس النسوي التقاطعي.
خارج سياق الحرب والعمل السياسي في الشارع من أجل وقفها، إذا كنت سوف أنصح أي طالبة أو طالب عربي في أمريكا بشأن خيارات الحيز السياسي الذي يرغبون قضاء الوقت فيه، فسأقول لهم بأن يختاروا الماركسيين التقليديين (غريم واضح) على يسار العدالة الاجتماعية (حليف غير واضح). لدى الماركسيين التقليديين الأمريكيين نظرية ظريفة بشأن أسباب موت اليسار: بعد عام 1968، ظهر اليسار الجديد الأمريكي والغربي وانهمك في فيتنام وحركات العالم الثالث وحركات العدالة الاجتماعية العرقية والجندرية ونسي بناء الاشتراكية في الغرب فبنى النيوليبرالية عوضاً عن ذلك. بناء على هذا الأساس، فإن الماركسي التقليدي لن يملك أي ابتسامة بشوشة في وجه الفلسطيني، بل سيأتي ويقول ببرود، إذا ثبت لدينا أن قضيتك لا تقرّب العالم من تحقيق الاشتراكية، فنحن لا نكترث بك، بل على العكس من ذلك، طالما لا يوجد حزب لينيني يحكم أمريكا، فستساعد الولايات المتحدة مرة تلو الأخرى على عودتكم أيها العالم-ثالثيون إلى فخ الكولونيالية الجديدة.
“صحيح أن أهل الجنوب اللبناني يشبهونك في تينهم وزيتونهم وحواكيرهم وضيعاتهم، لكن صدّقنا نحن القاطنون في بيئة كليات علوم الاجتماع في الجامعات الأمريكية أقرب إليك منهم”!
يقابل هذا الموقف الواضح والصادق (والفظ أحيانًا) غموض يختبئ وراء ابتسامات يساريي العدالة الاجتماعية؛ أنت أيها الفلسطيني مقموع مثلنا، صحيح أن أهل الجنوب اللبناني يشبهونك في تينهم وزيتونهم وحواكيرهم وضيعاتهم، لكن صدّقنا نحن القاطنون في بيئة كليات علوم الاجتماع في الجامعات الأمريكية أقرب إليك منهم، نحن مقموعون ومهمشون بسبب أعراقنا وجنسنا وجندرنا وأوزان أجسادنا أيضًا، وبما أننا خيرة مثقفي العالم الأول فإنه لدينا واجب أممي -وأمومي- بأن نتبنى قضيتك أيها الضحية الرومنسية الفلسطينية. أضف على ذلك أن واجبنا بالدفاع عن المقموعين يؤدي بنا إلى البحث عن مقموعيك، أنت لست ضحية خالصة أيها الفلسطيني بل يقطن تحتك ضحايا خالصون نقيون، مقموعون بسبب أبويتك بناء على جنسهم وجندرهم وأعراقهم حتى.
هذا الحليف غير الواضح ظهر بعد عام 2016، في حقبة شيوع الأيدولوجية الليبرالية اليسارية للعدالة الاجتماعية في الغرب وتفشيها ليس فقط لدى منظمات المجتمع الأهلي العاملة على الأرض مع الأكثر تهميشًا في المجتمع، بل في مجال النقاش العام السائد، في الصحافة والإعلام، في هوليوود، في الدساتير الإدارية لدوائر شؤون الأفراد في الشركات المتعددة الجنسيات، في الحكومة، في الجيش وحتى في الاستخبارات. هذه الثورة الثقافية حدثت بالطبع كرد فعل على وصول رئيس ذكوري عنصري إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة.
يقول عالم الرياضيات اليهودي الداعم للفلسطينيين ألان سوكال، بأن الاقتصاد السياسي لحراكات العدالة الاجتماعية ينقسم بين ثلاث فئات داخل الطبقة الإدارية الاحترافية العابرة للقطاع العام والخاص والقطاع غير الحكومي: أولًا، فئة الإداريين الذين يريدون التحكم بلغة وتصرف الموظفين داخل المؤسسة الإدارية. ثانيًا، فئة المتسلق الوظيفي الذي يستخدم مشاعر العدالة الاجتماعية -كما يستخدم البعض المشاعر الدينية أو الوطنية- من أجل الارتقاء في السلم الاقتصادي-الاجتماعي. وفئة الطالب حامل شهادات العليا، الباحث عن العمل والذي يريد تمييز نفسه عن محيط الطبقة العاملة فيتخذ موقف استعلائي أخلاقيًا من قضايا العدالة الاجتماعية.
هنا، تصبح الحقبة التي بدأت لدى انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة وانتهت بعد “طوفان الأقصى” الحقبة الذهبية لحركات العدالة الاجتماعية. المرحلة المثالية لاتخاذ مواقف قد لا تكون سهلة في كل مكان وزمان ولكنها سهلة للغاية في فقاعاتها. تلك هي الحقبة التي تم فيها تحويل وتعميم القضية الفلسطينية كقضية عدالة اجتماعية بين قامع ومقموع “متخاصمين” ففقدت بذلك تعريفها كقضية إبادة استعمارية. تلك هي الحقبة التي نزع فيها التعريف الجرمي القانوني لمنظومة الفصل العنصري كمنظومة تعطي لشعب الحق في تأجيل إبادة شعب آخر وطلب الشكر والعرفان منه على هذا التأجيل، وتم تحويلها إلى قضية عنصرية اعتيادية من قبل مجموعة من الإسرائليين “غير المتسامحين” مع “متطلبات العصر”. بل هي الفترة التي ظهرت فيها أطروحات غريبة تدل على جنون العظمة لدى رؤوس حركة العدالة الاجتماعية. على سبيل المثال، ظهرت ناشطة فلسطينية “نباتية” ورئيسة منظمة غير حكومية لحقوق الحيوان على وسائل إعلامية غربيّة كي تعلن عن أنه يجب أن تكون هناك عدالة ليس فقط للإنسان الفلسطيني ولكن أيضًا للحيوانات الفلسطينية والحشرات الفلسطينية وكل “المخلوقات الواعية” الفلسطينية.
جنون العظمة هذا فيه تفاؤل مبالغ فيه، تجده في شعارات “لا وطن حرا إلا بنساء حرة”، وشعار “فلسطين إلنا كلنا” (الخاص بالتعددية الجندرية)، تفاؤل يستبطن ثقة عمياء بقدرة الطبقة الإدارية الاحترافية غير الحكومية على هزيمة أبوية ترامب وأبوية الإسرائليين وأبوية الفلسطينيين، مساويًا بين الثالثة في وطئتها والأولتين. وهذا التفاؤل يقابله تشاؤم بشأن الأبوية، لا يأخذ بعين الاعتبار أنها لا تعني بالضرورة جرائم الشرف والتغطية عليها، الأبوية في سياقات أخرى هي أن تشعر بصنف من أصناف اليتم، عندما تتذكر بأن إدوارد سعيد، هيئة بمثابة الأب، لم يعد بيننا منذ عشرين عامًا. وهذا التفاؤل يؤدي بنا إلى الامتناع عن نقد مجرم أساسي في قائمة المجرمين، فقط لأنه يبدوا لطيفًا ونسويًا، فقط لأنه ظاهرة معقدة لا جندر لها، فقط لأنه “زميل” في الطبقة الإدارية الاحترافية. هذا المجرم هو شلة الأوروبيين الذين يجثون فوق صدورنا منذ عقود-من دون أن أشمل المتضامنين الحقيقيين- هؤلاء اللذين يريدون تعليمنا الحضارة والإنسانية، ويرون المرأة العربية ليس بإنسانية وندية بل بعين مرضية باثولوجية كعنصر لفوقيتهم الأخلاقية.
هذا التفاؤل المفرط للنسوية التقاطعية لم يجعلها مستعدة لتحولات عظمى في مجالات الثقافة والسياسة والإعلام في الغرب ما بعد “طوفان الأقصى”
بناء على كل هذه الأسس، هذا التفاؤل المفرط للنسوية التقاطعية لم يجعلها مستعدة لتحولات عظمى في مجالات الثقافة والسياسة والإعلام في الغرب ما بعد “طوفان الأقصى”، هنا قررت الطبقات الإدارية الاحترافية الأمريكية والأوروبية إمّا طرد الفلسطينيين من قوائم الحقوقية التقاطعية وإمّا الابتعاد عن إيديولوجية العدالة الاجتماعية ككل. هذا التفاؤل المفرط لم يكن جاهزًا لأولمبيات الإعلام الغربي الدموية، لم يكن جاهزًا لحقيقة أن الفلسطينية المقتولة على يد الفلسطينيين هي ضحية “ملائمة” بالنسبة إلى الغرب، وأن الفلسطينية المقتولة على يد الإسرائليين هي ضحية “غير ملائمة”، وأن الفلسطيني المقتول على يد المجندات الإسرائيليات هو طريدة غير بشرية مقبول صيدها. هذا التفاؤل المفرط لم يكن مستعدًا ليوم يأتي يقاوم فيه أباؤنا بكفاف رصاصهم حاملات الطائرات، أو يوم يدفن فيه الآباء تحت الركام، أو يبقون أحياء فتأتيهم وهم على رأس عملهم أطباء وصحفيين أخبار ترملهم وتثكلهم.
يذكّر التفاؤل المفرط لدى النسوية التقاطعية بنظيره لدى الكاتبة مارجريت أتوود في روايتها “حكاية جارية”، والتي تحكي قصة انهيار الولايات المتحدة وتشييد دستوبيا أبوية باسم جمهورية جلعاد. يفترض هذا الكتاب مسبقًا أن أمريكا كانت خيرة وحرة قبل انقلاب الجلعاديين عليها، كما وأنها رواية تحاكي مخاوف نسوية الطبقة الوسطى البيضاء بفقدان مركزهن في المجتمع الرأسمالي المتأخر. في عالم هذه القصة تقوم كل من كندا الجارة وبريطانيا الحقوقيتان النسويتان بفرض العقوبات على الجلعاديين وبإصدار مذكرات لاعتقال قادة جلعاد بسبب ارتكابهم جرائم ضد الانسانية. أتوود هنا تفرط في تفاؤلها في قيم الغرب وفي قدرته على محاربة القمعيين ومحاسبتهم من أجل العدالة الاجتماعية، وحتى لو سقطت أمريكا، لن يسقط بطل الطبقة الوسطى الغربي الذي سيقوم باتخاذ القرار الصحيح.
ماذا لو قلنا أن جلعاد الحقيقية أكثر رعبًا من جلعاد الخيالية؟ ماذا لو قلنا أن الجلعاديين الحقيقين هم محور نيتنياهو-بايدن وحلفائهم الكنديين والأوروبيين والطبقة الاحترافية الإدارية التي تعمل تحت إمرتهم؟ ماذا لو قلنا أن الكونجرس الأمريكي هو مؤسسة ثيوقراطية يحمكها رجال ونساء أحد الديانتين الصهيونية الإنجيلية أو الصهيونية العلمانية الليبرالية التي تقوم على عقيدة التفوق الحضاري الغربي في كل الجوانب حتى في الجانب النسوي؟ ماذا لو لم تكن جمهورية جلعاد هي من تتعرض للعقوبات من قبل “العالم الحر” بل هي التي تفرض العقوبات على الآخرين؟ وماذا لو قلنا أن قادة جلعاد المعاتيه هؤلاء اشتركوا في الإبادة بحق الفلسطينيين الغزيين؟
في عام 2019، العام الذي بزغ فيه نجم النسوية التقاطعية في فلسطين، وبينما كنا في إحدى اجتماعات مشاريع دعم النوع الاجتماعي في رام الله، وقفت مديرة أوروبية لإحدى المؤسسات الدولية كي تلقي كلمتها وحذرت باحتقار وفوقية: “على الرجال الفلسطينيين الوقوف معنا في دعم المرأة أو الوقوف جانبًا”. اليوم عرفنا المعنى الحقيقي للعاقبة الوخيمة الإبادية بعدما رفضت جماعة من الرجال الفلسطينيين في فصائل المقاومة، أوامر الأوروبيين بالوقوف جانبًا.