رُبّما قد مرّ أمام ناظريكم، على مواقع التواصل الاجتماعي، فيديو يعود إلى ماض ليس ببعيد، يظهر فيه أطفال من فلسطين الحبيبة يفصحون عن أحلامهم البريئة، ولشدّة تأثّركم به قد شارَكْتُموه مع الأصدقاء. لا شكّ أنّ بعضهم قد أدمى قلوبكم، كحلم أحدهم أن يلتقي بأخيه لشدة اشتياقه إليه، وآخر يشتهي أكل السكر وساندويش الشاورما. ولكن ثمّة حلمين، ما إن التقطتهما وقتها رادارات أجهزة استخبارات العدو الإسرائيلي وبَسَطَتْهُما على مَشْرَحَة البحث، أعتقد أنها كانت لِتُصنّفهما تحت فئة “الخطير جدًا”. الحلم الأول: أن يتحرّر الأسرى، والثاني: أن يفكّ الحصار. وكأنّهما شيفرة لقرب حصول زلزال متمرّد سيقضّ كيان العدو.
حُلُمُ الطفل الفلسطيني، مهما كان بسيطًا، هو مؤشر خطير يُهدّد الوجود الإسرائيلي. أن يحلم الفلسطيني رغم كل محاولات العدو في إقصائه ونفيه وتجريده من كل مقومات الإنسانية يعني أنّ العدو فشِل في استعمار مخيّلته. وهي بشرى خير: أولى بدايات التحرير هو تحرير المخيّلة.
الاستعمارُ ومخيّلةُ المقاوم نِدّان. الأوّل، يُحتّم موت الذات الفلسطينية ويستأصل هويتها ويفكّك لُحْمَتها الزمانية والمكانية ويجرّدها من الحقوق ويعزلها في إطار سجن كبير كآلية للتطويع في سبيل إعادة هندستها على شكل ذات عاجزة خاضعة، بلا أحلام عظيمة. أمّا الثاني، فيُعيد إحياء الذات الفلسطينية من جديد ويرسم لها مصيرًا جديدًا خارج علاقة التبعية مع النظام الاستعماري ويولّد في مخيّلتها أحلامًا ثورية قابلة للتحقّق.
ما شاهدناه في السابع من أكتوبر من العام 2023، لوحة جمالية مدهشة تجلّت فيها أقصى درجات الإبداع والجرأة لمخيّلة مقاومين فلسطينيين. لوحة بثّت إيقاعًا مدويًّا على مستوى الوعي، بدأ من فلسطين وامتدّ إلى العالم أجمع، مولّدًا ثورة تحررية ضد كل أجهزة استعمار الخيال.
هي ثلاثةُ انتصارات تجلّت في “طوفان الأقصى” سنسعى إلى استكشاف معالمها في هذه المقالة: الانتصار الأوّل تحقّق في لحظة تحرير المخيلة، ثم تعزّز بانتصار ثان عند تكريس الصورة المتخيّلة كواقع حقيقي بأدوات ابتكارية. وأمّا الانتصار الثالث، فبرز عند اندلاع ثورة شعبية عالمية تواجه منظومة الاعلام الغربي وسياساته المتواطئة مع العدو.
الانتصار الأوّل: تحرير المخيّلة
يُميّز العلماء التخيّل عن الخيال. التخيّل فعلٌ جماعي مشترك بين مجموعة من الأفراد، يتشاركون التصوّرات لما هو ممكن. وهو يخلق الأشياء التي لا وجود لها والتي لم يسبق لها أن وجدت، ويشكّل أرضية باعثة على العمل لتحقيقه، فيسعى إلى ابتكار الأدوات المناسبة ويضع الخطط العملياتية لتجسيد الصورة المتشكّلة في الخيال. أمّا الخيال، فهو الصورة المتشكّلة في الذهن، لا تشترط بالضرورة سعي الشخص لها لتحقيقها، فهي تتسّم بصبغة فردية.
في السبت الأول من شهر أكتوبر هذا العام، صَحَا العالمُ العربي على طوفان ثوري عجز عن توقّعه العدو وفشل حتى في تخيّله، إلّا أنّه واقعًا كان منشؤه حلم طفلٍ، ثم تخيّل جماعةٍ من المقاومين حتى صار ثورة على طريق التحرير واستنهاض الأمّة.
حينما عجز العالم عن فك شيفرة الحدث التاريخي وتحديد معالمه، ظهر القائد العام لـ”كتائب الشهيد عز الدين القسام”، محمد الضيف، لِيَهَبَ لهذه الحركة الصانعة لتاريخ جديد شكلًا ومضمونًا: “هو يوم الثورة الكبرى لإنهاء الاحتلال”،…” وهو يوم يستعيد فيه الشعب ثورته ويعود لمشروع التحرير”.
شكّلت عملية “طوفان الأقصى” لحظة تفجّر وانكشاف لمخيّلة المقاومين الإبداعية والجريئة. مخيّلةٌ خاضت الكثير من الاستحقاقات التاريخية، وراكمت نفسيًا إدراكات واستعدادات على مدى مسيرة طويلة من الآلام والبطولات والشهداء والخذلان والهزائم والانتصارات. كما واجهت نهجًا تعسّفيًا مستدامًا في استدراج الشباب من دائرة الأحلام الثورية إلى متاهة الآلام وتعقيدات الواقع، وتصدّت لكل مساعي تعميق الفجوة بين الآمال والطموحات الفردية والجماعية من جهة، والانتصارات المتحقّقة في أرض الميدان من جهة أخرى.
في الواقع، وبحسب أدبيات المثقف المشتبك الشهيد باسل الأعرج، فإنّ المقاومين “حرّروا عقلهم وهدموا الأصنام” التي حاول العدو بناءها في عقولهم، واتّخذوا عهدًا على أنفسهم بالالتزام الأخلاقي والوطني. فمجموع المبادرات الفردية لهؤلاء المقاومين صنعت ثورة “طوفان الأقصى”.
الانتصار الثاني: التخيّل في دائرة الممكن
بدأت الثورة نفسيًا في اللّحظة المقدّسة التي أدرك أصحابها أنّهم أحرار، ثم تحوّلت ضمن دائرة الممكن حينما نجحوا في تسييلها في خطة عملياتية ملكوا فيها السّماء والبحر والأرض.
بطائرات شراعية، قفزوا قفزة الحرية في سماء فلسطين، وبزوارق بحرية، اشتمّوا نسيم بحرها، وبدراجاتهم النّارية، عبروا الجدار وانتشروا في أرضها أسيادًا، فارضين على المستوطنين منع التجوّل للمرة الأولى.
بحسب أدبيات المثقف المشتبك الشهيد باسل الأعرج، فإنّ المقاومين “حرّروا عقلهم وهدموا الأصنام” التي حاول العدو بناءها في عقولهم
كان “طوفان الأقصى” شديد الصّدى، بثّ إيقاعًا مدوّيًا استولدَ لغة جديدة وصورة جديدة: “الأواخر أصبحوا الأوائل”، قتلوا الآلاف من العدو، وأسروا المئات منهم، ودمّروا آلياتهم وعادوا بهم غنائم إلى أهل فلسطين.
سقطت أسطورة الميركافا، حينما تسلّق الأطفالُ الدّباباتِ رافعين أعلام فلسطين، مهلّلين ومكبّرين. سقطت مقولة “الجيش الذي لا يقهر” عندما شاهد الأطفال الجنود جثثًا متناثرة على أطراف الشوارع، والأحياء منهم أسرى في قبضة المقاومين. وفي اللحظة التي شاهدوا فيها المقاومين يجتازون الجدار الحديدي بدراجاتهم، انتهت بالنسبة لهم فكرة إسرائيل.
حرّر الطوفان الثوري مخيّلة الشعب من أصنام العدو فباتت تجري على أفواههم المُدماة قهرًا وظلمًا شهادات تلامس الحكمة والسرّ المقدّس “كلنا مشاريع شهداء والحمدلله، هذه أرض جهاد، إنها معركة وجود، نحن منصورين، فدا المقاومة، نحن ما منهزّين، لن نرحل، فدا القدس، فلسطين مهرها غالي، هذا بيتي المهدّم أنا باقي فيه”.
وفي آخر استصراح حتى تاريخ كتابة هذا المقال، سُئل طفلٌ فلسطيني عن حلمه، أجاب قائلًا: وهل يوجد لنا حلم آخر غير أن نعود إلى أرضنا وتتحرّر فلسطين؟!
الانتصار الثالث: ثورة على الإعلام الغربي
وجّهت المقاومة الفلسطينية صفعةً قوية على وجه الكيان الإسرائيلي بتهشيمها صورة جنوده في قلب الفلسطيني على مرأى العالم أجمع. انهزمت إسرائيل. وما يحتاج إلى الظلم إلا الضعيف. عاثَ العدو في قطاع غزة قتلًا وتدميرًا في عدوان دموي يحاول فيه إعادة بناء صورته الحديدية في الوعي العربي على دماء الأطفال والنساء الحوامل والشيوخ.
“إسرائيل”، الأداة الأساسية للمشروع الاستعماري الأمريكي والأوروبي، تُساندها منظومة عالمية من شبكات إعلامية ضخمة تهندس – على وقع أوركسترا متناسقة – سردية تضليلية تحاول فيها لملمة أذيال الخيبة وكسب الرأي العام العالمي لصالح “إسرائيل”، وذلك عبر حجب وحشية العدوّ، وفبركة أخبارٍ تُشَيْطِنُ المقاومة، وابتداع مفاهيم مقنّعة تزيّف حقيقة مخططات العدوّ وجرائمه.
أحدَثَ “طوفان الأقصى” ثورة شعبية عالمية ضد ممارسات الإعلام الغربي، وذلك يعود إلى معاينتهم اليومية، لحظة بلحظة، لمظلومية الشعب الفلسطيني على منصات مواقع التواصل الاجتماعي، عبر المؤثرين والصحفيين والمصوّرين المستقلّين. وهي حقيقة غالبًا ما يتم حجبها أو تحويرها على قنوات الاعلام الغربي، كما أنّها تُحذف من المنصات الرقمية وفق أجندة منحازة لـ”إسرائيل”. أدرك الجمهور العالمي، كما العربي، العمليةَ التضليلية التي تنتهجها كبريات المؤسسات الإعلامية الغربية في استعمار عقول الرأي العام العالمي بعد انكشاف زيف العديد من الأخبار كواقعة قطع رؤوس الأطفال وحرقها، والإخراج التمثيلي لمراسلة “سي أن أن” عند تغطيتها الاعلامية. فنزلت الشعوب إلى الساحات مستنكرة وشاجبة، متربّصة بقدوم أحد المراسلين المتواطئين ليسائلوه وجهًا لوجه حول الحقيقة والمهنيّة والإنسانية أمام عدسات الهواتف الذكية.
نزعت محكمةُ الشعبِ الشرعيةَ عن المؤسسات الإعلامية الغربية لثبوت سلسلة من الجرائم المروّعة في تاريخ سجلّها المهني: كذب، ونفاق، وتواطؤ مع الجلّاد، اجترار مفاهيم ومصطلحات لا صلة لها بالواقع الحقيقي. وكأن “طوفان الأقصى” حمل معه لغة جديدة صارت على شفاه كل أحرار العالم الذين خاطبهم نفسه القائد محمد الضيف في خطابه “يا أحرار العالم، هذا اليوم هو يوم غضبكم!”.
أعلنت الشعوب ثورتها على المؤسسات الإعلامية الغربية، وطالبتها بسلسلة من الإجراءات الفورية: التغطية الإعلامية العادلة عبر إيصال صوت فلسطين والمظلومين، التوقّف عن تجريد العرب من إنسانيتهم وتشويه صورتهم، استخدام المصطلحات الصحيحة المعبّرة عن الحقيقة والابتعاد عن المصطلحات الحاجبة للواقع الحقيقي.
جَرَت العادة في الخطاب الأكاديمي حول الاعلام والثورة البحث والنقاش في دوره في إشعال الثورات وإخمادها، وكذلك عن صلاحياته الممنوحة له وهامش الحرية الإعلامية في الأزمات وعلاقة الاعلام بالسلطات ومحاسبة الأخيرة له عند تسجيل تجاوزات أو خروقات في العمل الاعلامي، وكذلك يُبحَث في موضوع ازدواجية المعايير في التعاطي مع القضايا خاصة في الاعلام الدولي. ولكن تردّدات “طوفان الأقصى” فتحت الباب لنقاشٍ جديد حول “ثورة الشعوب على الاعلام” وإعلانها ليس حصرًا على هواء الفضائيات، إنما أيضًا ببث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي، وكما يطرح معه تساؤلات جديدة حول دور الشعوب ومدى قدرتها في تغيير السردية التضليلية المنمّطة للآخر، ويدفعنا نحو البحث في دور مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز التواصل بين الشعوب وتبيانها الصورة الحقيقية للذات والآخر، تحديدًا في الحالة الفلسطينية.
المقاومة هي فعلُ تخيّل حرّ للأحلام العظيمة وابتكار الأدوات الخلّاقة لتحقيقها، وهي ولّادة بطبيعتها لعالم جديد بصور جديدة ولغة جديدة تشبه وجه الحقيقة. ولكن، ماذا بعد اكتشاف الحقيقة؟