أخذت دولة الاحتلال أكثر من أربعة أيام لاستعادة حضورها على الحدود مع قطاع غزة، وبدأت عمليات التسلل في التراجع من حيث القدرة والكثافة ومدى وصولها. وبدأنا ندخل المرحلة الثانية من الحرب، وهي حرب تدميرية تُخاض ضد قطاع غزة على مستويات متعددة. أبرزها السعي لاستعادة التوازن من خلال استدعاء القوة الأمريكية في المنطقة كقوة رادعة ولتعزيز إمكانيات الدفاع الصاروخي خاصة أمام الصواريخ الباليستية، والمساهمة في الحرب الجوية بحال دخول جبهات أخرى، وتوحيد جبهة الاحتلال الداخلية من خلال إقامة حكومة طوارئ تظهر فيها دولة الاحتلال موحدة أمام أصدقائها وأعدائها، وأخيرًا الرد بوضوح على سياسات الاشتباك من جبهات أخرى، خاصة من شمال فلسطين، ما أدى إلى استشهاد مجاهدين من حزب الله.
شهدنا في الأيام الأخيرة تصاعدًا غير مسبوق في الخطاب العنصري والفاشي لدى قادة دولة الاحتلال. هذا الحصار، الذي يتضمن قطع الإمدادات الأساسية مثل الغذاء، الماء، الكهرباء والأدوية، يهدف إلى إضعاف إرادة القتال في غزة، والمساومة على الأسرى الصهاينة في سجون المقاومة، وهو من حيث بنيته يشبه حصارات تأتينا من تاريخ العصور الوسطى. كما يشنّ الاحتلال حملة جوية تدميرية، تستهدف البنية التحتية والبنايات السكنية، ومن ورائها تسعى كي تغرز في وعي الفلسطينيين أن كلّ نجاح لهم يليه دمار وموت كثيف. هذه الحملة التي أودت بحياة كثيرين تأتي في سياق ما يسميه الإسرائيليون “توزان الرعب” بعد مقتل 1300 منهم.
وفي حملتها هذه، حصلت دولة الاحتلال على شرعية إعلامية ودعم غربي كبير. وهنا دعونا نذكر كيف حاول الإعلام الغربي المساهمة في الخداع بعملية المترو في العام 2021. اليوم، تتناقل وسائل الإعلام الغربية الأخبار الكاذبة وتلعب دورًا مباشرًا في نشر ادعاءات مزيفة حول ما حصل في مستوطنات غلاف غزة، ضمن حملة موجهة لاستدرار التعاطف وإتاحة مساحة واسعة لإطلاق غريزة الانتقام دون هوادة. وقد ساهم هذا الضخ أيضًا في عملية بناء إرادة جماعية وداخلية بضرورة الدخول في حرب واسعة وطويلة تتطلب تضحيات أكثر من قبل قوات الاحتلال في قطاع غزة على مستوى الجبهة الداخلية، ولربما أيضًا على مستوى الجبهة الشمالية.
تُراهن دولة الاحتلال على أمرين اليوم: أولًا، إمكانية ردع حلفاء المقاومة في غزة، وثانيًا، إمكانية القضاء على جبهة غزة دون تدخل حلفاء تلك الجبهة. وقد وضعت هدفًا كبيرًا أمامها، يشابه من حيث بنيته الأهداف التي وضعها رئيس الحكومة إيهود أولمرت في العام ٢٠٠٦ أي القضاء على حزب الله في لبنان حينه. إذن، دولة الاحتلال تتحدث عن حرب واسعة تحتاج أسابيع وأشهر تُخرج فيها قوى المقاومة من قطاع غزة. يبقى السؤال: هل هناك منطق في الجنون الحالي؟ أم أنه يعبّر عن فقدان توازن نفسي فقط؟
يحاول العدو أن يعيد عقارب الزمن للوراء، إلى ما قبل يوم السبت حين اتخذ قرار بالقضاء على الخط الدفاعي العسكري الذي يفصل قطاع غزة عن المستوطنات. بل يسعى لنقل المعركة إلى الخصم في ظل مغالاة خطابية ورؤى ضبابية، مما يشير إلى أننا أمام أشكال متعددة من التخبط والغموض والمجهول على مستوى القرارات التي يتم اتخاذها. لنا أن نتخيّل شكل النقاش الحاد الدائر بين القادة العسكريين والسياسيين حول ما هو ممكن في قطاع غزة. ما هو مشترك بينهما حتى الآن هو أن على القطاع دفع ثمن كبير، واستخدام القوة الجوية على مستويات مختلفة: أولًا، إحقاق انهيار في الأنظمة الاجتماعية والمؤسساتية القائمة وثانيًا، تدفيع المدنيين في غزة ثمنًا كبيرًا هو جزء أصيل من الهدف. وثالثًا، محاولة ضرب البنية التحتية العسكرية وفتح ممرات جديدة تمهّد لعملية الدخول البري.
وفي ظل هذه الأهداف هناك تشكك في قدرة الاحتلال على القيام بحملة برية ناجحة، وفي أن الدخول إلى غزة قد يؤدي إلى إغراق دولة الاحتلال في إشكاليات أكثر من نجاحات. في عوالم الدراسات الاستراتيجية والحرب، عادة ما نعمل تحت افتراض أن خصومنا يسعون إلى الحصول على نوع من الفائدة أو المنفعة. بمعنى أن هناك هدفًا من وراء كل خطوة عسكرية أو سياسية يقوم بها العدو أو الصديق. سواء كانت تلك الأهداف أو الغايات مزيجًا من المطامع المادية، أو السلطة والهيمنة، أو الأمان أو استعادة التوازن. عندما تتضح دوافع الفاعل السياسي تصبح أفعاله عادةً أكثر قابلية للتنبؤ، وبالتالي، يصبح من الأسهل تشكيل استراتيجياتنا الخاصة كرد فعل. وهنا ما يهمنا في علاقة الجنون بالمنفعة، أن الجنون هو أيضًا تعليق مؤقت لإمكانية قراءة الخصم وقراءة إرادة القتال. وجنون دولة الاحتلال هو من نوعين، أي أنه جن ليس كما يدعي لأجل مقتل العديد من المدنيين، بل لأن جيشه في الجبهة الجنوبية انهار، ومعه الدفاعات بطبقاتها المتعددة.
ولأن العالم قرر أن يتبنى السردية الصهيونية ضمن حملة تواصل استراتيجي تهدف لإتاحة مجال واسع للمناورة، فإن الجنون هو أيضًا استراتيجية دولة الاحتلال في الوقت الحالي. فهي تسعى لإسكات كل الأصوات المعارضة وترهيب مناصري فلسطين في العالم الجنوبي والشمالي. ولأن هناك مصالح تريد القضاء على جبهة غزة في العالم العربي، فإن دولة الاحتلال تمتلك مساحة واسعة من العمل وحرية التحرك بما في ذلك العمل العسكري القائم على “الاستثناء” وتعليق قواعد الحرب السابقة والتي كانت تسعى لإحقاق المجزرة ومنسوبها والتي ارتبطت بالصواريخ الدقيقة، والتحذير المسبق. بمعنى أننا اليوم أمام مجزرة دون قواعد، أو على الأقل هكذا تبدو في أدواتها.
في الوقت الحالي، تتبع دولة الاحتلال منطقًا انتقاميًا خالصًا، تهدف عبره لانتزاع أكبر عدد من أرواح المدنيين الآمنين لتقيم ميزان دم جديد، يسفك من دماء الفلسطينيين أكثر من الدماء التي أريقت من دماء الصهاينة. إذ تعد هذه المشكلة واحدة من المشكلات الرئيسية التي أبرزتها المواجهة، حيث أن في مراحلها الأولى، ساهمت أعداد القتلى من الجنود والمستوطنين في خلق “لحظة هستيرية” تعتبر جزءًا من استراتيجية الترهيب، وشحن الهمم في الجبهة الداخلية، وإعادة إحياء الإرادة التي غابت في ظل فقدان الثقة على مستويات متعددة، وذلك في العلاقة بين المجتمع الصهيوني والطبقة السياسية والأمنية.
يساهم الجنون في خلق حالة تظهر فيها أيضًا أشباح الماضي عند الفلسطينيين. بما فيه أشباح التهجير، والمجازر، وفي الحرب النفسية الحالية هناك الكثير من الخلط بين ما هو واقعي وما بين ما هو محتمل، أي إن انفتاح التاريخ يخلق أيضًا هذا الرعب، خاصة عندما يكون الرعب مصحوبًا بحملة جوية أسقط فيها الاحتلال ٤٠٠٠ طن من المتفجرات على القطاع المحاصر. بمعنى أنه أمام التجربة التهديمية الإسرائيلية التي حققتها المقاومة في مناورتها البرية الهجومية، هناك حاجة لتجربة تهديمية تُستحضر فيها أشباح النكبة وإمكانية التهجير الممنهج.
المناورة البرية في غزة
هناك قرار أمريكي وأوروبي يتيح الوقت لدولة الاحتلال للانتقام واستعادة جزء من الردع المفقود، من خلال منحها فرصة ومساحة واسعة لمواجهة المقاومة. وقد سخّرت لذلك حملة دعائية كاذبة، بما فيها الخلط ما بين “داعش” وحركة “حماس” والمبالغة بالأحداث التي حصلت في غلاف غزة والحديث الموجه حول الاغتصاب وقطع الرؤوس وقتل الأطفال. هذه الادعاءات سترتد داخليًا عندما تبدأ حقيقة ما حصل في غلاف غزة بالتسرب داخل المجتمع الصهيوني: قرار بقتل الرهائن مع المقاومين، وقرارها في الإسراع من عملية السيطرة على غلاف غزة على حساب مواطنيها بحسب ما أفاد به عضو المكتب السياسي في “حماس” صالح العاروري. ومع ذلك، جميع خيارات دولة الاحتلال الحالية صعبة.
في جوهرها، تسعى لتغيير المعادلة التي فرضتها غزة؛ تحويل النصر الأولي لهزيمة. يتطلب ذلك منها تحييد الجبهات الأخرى المحتملة والتركيز على قطاع غزة، بما يجعل حجم الألم والدمار كافيًا لإضعاف قوة المقاومة في القطاع وإجبارها على الركوع أمام الضربات الجوية والمدفعية والبحرية، مع النظر في إمكانية خوض معركة برية واسعة النطاق في غزة.
لكن، هل تستطيع دولة الاحتلال الوفاء بوعودها أمام حلفائها؟ هل يمكنها القضاء على المقاومة بحملة برية أو جوية؟ الصعوبة الرئيسية التي تواجه دولة الاحتلال هي أنها قد تستطيع نظريًا تدمير غزة، ولكنها ستجد صعوبة كبيرة في تدمير المقاومة. هذه المعادلة تجعل من أي حرب برية مفترق طرق حاسم في تاريخ “إسرائيل”، حاسم حتى أكثر من الضربة الأولى، لأنها أيضًا تفتح نفسها بهذا القرار على إمكانية تحويل الهزيمة الأولية إلى هزيمة أعمق في حال قيامها باجتياح بري ورغم خسائرها البشرية فيه تفشل في القضاء على المقاومة.
تعاني دولة الاحتلال من سطوة التاريخ عليها، فهي اعتادت تحويل هزيمة أولية إلى نصر، واعتادت أنها تمتلك ما يكفي من عوامل القوة لقلب المعادلات التي يفرضها الواقع عليها. هذا ما استطاعت تحقيقه في الحرب العام ١٩٧٣ بالالتفاف على الاختراق المصري الأولي لخط بار ليڤ، وتحويل هزيمة إلى نصر أخذ مصر إلى اتفاقات كامب دايفيد. وأمام الحلف العريض الذي أعد للحرب معها قبيل النكسة استطاعت القيام بضربة استباقية مستخدمة معلومات استخبارية دقيقة، وتمكنت من تحييد، بشكل فاعل، القوة الجوية المصرية والسورية والأردنية، واحتلت بجيشها البري الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان.
سطوة التاريخ هذه تأخذها لحسابات خاطئة، الأولى أنها تشعر بثقة بإمكانية هزيمة المقاومة في القطاع دون تدخل جبهات أخرى وضمن أجواء تعزيز الردع في شرق المتوسط، والثانية أنها تستطيع القيام بعلميات الدخول البري وأن تنتصر. فهي تمتلك أربعة خيارات الآن: الأول، استيعاب الضربة بعد رد جوي قاسٍ وخلق سياسة طويلة الأمد تهدف لخنق القطاع اقتصاديًا واجتماعيًا. أو الذهاب لاستهداف بنية المقاومة بشكل مباشر ما يتطلّب دخولًا بريًا حاسمًا وبقوات وأعداد كبيرة معرضة نفسها لانكسار جديد أمام العالم، وأمام أصدقائها قبل أعدائها. والثالث، المبادرة في حرب شاملة تضرب فيها جبهات متعددة، وغيرها من قوى المنطقة في محاولة لإظهار قوتها. بمعنى أن تأخذ المعركة لمداها.
هناك خيار أخير أن تأخذ الهستيريا مداها بحيث تجعل من غزة مكانًا غير قابل للحياة. ولكل هذه الخيارات جميعها لها أثمان كبيرة.
إنّ المخاطرة في دخول حرب برية، هائلة، ليس فقط لأن جيش الاحتلال لم يعتد الحروب البرية وأنه رغم ادعاءاته بكونه أفضل قوة تخوض حرب المدن في العالم؛ فهو سيدخل في ظل دعم جوي متعدد الطبقات – درونات صغيرة، ومروحيات، ومسيرات انتحارية، وطائرات متطورة تستمر في عملية القصف وتساهم في ربط الوحدات المقاتلة بطبقات متعددة من الدعم الجوي. وسيستخدم قنابل سامة في محاولة قتل إمكانية توظيف الأنفاق. كل هذا وأكثر.
ولكن من المهم الإشارة إلى أمرين: الأول، أن المعركة الدائرة والتي أفضت إلى سقوط لواء غزة تعني أيضًا امتلاك المقاومة معلومات قيمة عن شكل العمل العسكري الممكن معززة ما تمتلكه أساسًا. وثانيًا، أن صمود المقاومة عقب الحرب سيكلف دولة الاحتلال الكثير سياسيًا ونفسيًا وعلى مستوى انفتاح إمكانية سياسية متعددة. بل أن تعويلها على حلفائها في هذه اللحظات سيجعلها عرضة أكثر لابتزاز أوسع من المركز الأورو-أمريكي وتنازلات لاحقة بعد انتهاء الحرب.
وسيدخل الجيش بدعم لوجستي دولي، وبقدرات تدميرية مهولة، ومدرعات من مختلف الأنماط والأنواع، لربما بمشاركة بعض الدول في الأعمال الحربية. وبقدرة على استخدام قنابل سامة في محاولة لمحاربة الأنفاق والبنى التحتية للمقاومة. فغزة معدة بشكل جاد لمقابلة الغزاة، بل قد تكون الضربة الأولى جزءًا من الخداع، لجر الاحتلال لهزيمة نفسه.
خاتمة
ورغم أن البعض اعتبر الهزيمة أمرًا أبديًا، وهناك من يعيش في حب الخسارة نفسها، بل أصبح يعتاش كظل ومرآة لها، والبعض الآخر ندم على مشاركته في الحلم الأول القائم على أمل التحرير، سيثبت التاريخ أنه حين تعلم الفقراء دروس الدول العربية ومن سبقوهم في رحلة البحث عن الحرية، في تلك اللحظة بدأت نهاية فكرة “إسرائيل”.
ما نراه من جنون وهستيريا فقط يؤكد على حقيقة أن القوي عندما يتعرى كضعيف يجن. وأن الجنون هنا دمار دون معنى سياسي واضح.