بداية العام الدراسي: اقتحام واعتقالات
فجر السبت الرابع والعشرين من أيلول، بعد اليوم الأوّل من العام الدراسي في جامعة بيرزيت، قوّة عسكريّة كبيرة من عشرات الآليات والجنود المدجّجين تقتحم جامعة بيرزيت وتعتقل ثمانية من طلبتها. يسرد عبّود تايه، طالب العلوم الماليّة والمصرفيّة، لـ”الكرمل”، الأحداث، حيث توجّهت القوّة بدايةً إلى قرية أبو شخيدم القريبة من بيرزيت واعتقلت أحد سكّانها، ومن ثمّ توجّهت إلى الجامعة؛ أصفدت أيدي الحرس واحتجزتهم في غرفة، وتوجّهت إلى مقرّ مجلس الطلبة داخل الجامعة، فجّرت بابه واقتحمته، عبثت بكلّ ما وجدت من أغراض، واعتقلت ثمانية طلاب وجدوا في الجامعة.
على الرغم من هول الحدث وبشاعته، إلا أنه ليس غريبًا من المستعمِر وعلى جامعة بيرزيت تحديدًا. يحدّثنا عبّود، المنسّق السابق لإطار “القطب الطلابي الديمقراطي التقدّمي” في الجامعة، أن هذه الخطوة هي مجرّد جزء من سلسلة مستمرّة منذ سنوات، فمنذ عام 2019 قلّما سلم أي رفيق له نشاط أو فاعليّة في “القطب” من الاعتقال، وقبل بداية الفصل الحالي والاعتقالات الأخيرة، اعتقل الاستعمار عشرة من طلبة الجامعة المحسوبين على “القطب الطلابي” و”كتلة الوفاء الإسلامية”.
سياسات اقتحام الجامعات واعتقال الطلبة هي إحدى تمظهرات البنية الاستعمارية العنيفة التي تسعى إلى القضاء على أي مساحة يتبادل فيها الفلسطينيون المعرفة أو أي إطار جماعي يحاول فيه الفلسطينيون تغيير واقعهم
يستهدف المستعمِر الطلبةَ الفاعلين في الحركة الطلابية، كما هو الحال في الاعتقال الأخير الذي شمل بمعظمه ممثّلين منتخبين في مجلس الطلبة الذي تترأسّه هذا العام “كتلة الوفاء الإسلاميّة”، مثل رئيس مجلس الطلبة وسكرتير اللجنة الرياضيّة وسكرتير لجنة التخصصات وغيرهم من الفاعلين في السنوات السابقة أيضًا. يرى عبّود أن هذه السياسات تجعل من الاعتقال احتمالًا واردًا لأي طالب له صلة بالحركة الطلابية، إلا أن ذلك لا يهدّد وجودها أو حتى يحدّد قرار الطلبة بالانخراط فيها من عدمه، “إذا صار الاعتقال بكون صار، وإذا لأ بكون أفضل”، يقول عبّود. بل ويرى أنّها تضحية صغيرة مقابل ما يقدّمه الفلسطينيون في أماكن مختلفة، مثل أطر المقاومة في جنين ونابلس التي يقدّم الأشخاص فيها أعمارهم فداءً للتحرّر.
الحركة الطلابية جزء من الأطر الجماهيريّة
ليان كايد، طالبة في برنامج التنمية المجتمعيّة في الجامعة، وممثّلة الإطار الطلابي “صدى صوت الطلبة” في مجلس كليّة الدراسات العليا[*]
، وأسيرة سابقة، تضع محاولات القضاء على الحركة الطلابية في بيرزيت وغيرها من الجامعات في إطارها الأوسع، ألا وهو مساعي الاستعمار للقضاء على جميع الأطر الجماهيريّة في الضفّة الغربيّة. ليس الحركة الطلابية وحدها، توضح ليان لـ”الكرمل”، بل أي جهود أو عمل جماعيّ فلسطيني كما شهدنا محاولات إلغاء والسيطرة على أطر الزكاة أو الاتحادات النقابية في السنوات الأخيرة على سبيل المثال، ويساعد الاستعمار في ذلك بشكل واضح في السنوات الأخيرة القبضة الأمنيّة للسلطة الفلسطينيّة والسياسات الاقتصاديّة النيوليبرالية، حيث تساهم جميعها في ضرب أي تحرّك جماعي تحرري.
تأخذ محاولات القضاء على الحركة الطلابية انتباهًا شعبيًا وإعلاميًا أكثر من باقي الأطر الجماهيريّة في العادة، والأمر يعود إلى حفاظ الحركة الطلابية على وجودها كأجسام تنتج فاعلين سياسيين ذوي أعمار أصغر ينخرطون في أطر جماهيريّة مختلفة مستقبلًا، بالإضافة إلى قدرة الطلبة على توظيف وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أفضل، كما تقول ليان.
مواجهة هذه السياسات مجتمعة كانت دافعًا أساسيًا لتشكيل “صدى صوت الطلبة” بداية هذا العام، حيث يرى الإطار مهمّته أكبر من تمثيل طلبة الدراسات العليا في مجلس الكليّة (وهو كما جرت العادة إجراء روتيني لا توليه الجامعة أهميّة)؛ بل في خلق إطار جماعي يسدّ الفراغ الهائل في العمل السياسي في السنوات الأخيرة، نقطة انطلاقه هي الجامعة كونها فضاء أسهل للقاء وذات إمكانيّة أعلى لتجميع الناس.
على الرغم من المساحة الرحبة -نسبيًا- التي تتيحها الجامعة للتجمّع ومواجهة السلطات المختلفة، إلّا أنها لها تحدّياتها هي الأخرى خاصّة عندما يتعلّق الأمر بطلبة الدراسات العليا، كما تشاركنا ليان. فمن تجربتها، تلاحظ ليان أن طلبة الدراسات العليا في العادة أقل جذريّة والتزامًا من طلبة البكالوريس بسبب التزامات الحياة التي تتعلّق بالتقدّم بالعمر، مثل الالتزامات العائليّة، ولارتباط الكثير منهم في شبكة مصالح مع الحكومة أو القطاع الخاصّ ما يقلل من احتمالات المواجهة والعمل السياسي.
حقد استعماري خاصّ على بيرزيت
سياسات اقتحام الجامعات واعتقال الطلبة هي إحدى تمظهرات البنية الاستعمارية العنيفة التي تسعى إلى القضاء على أي مساحة يتبادل فيها الفلسطينيون المعرفة أو أي إطار جماعي يحاول فيه الفلسطينيون تغيير واقعهم. يستهدف الاستعمار الجامعات الفلسطينيّة أجمع في هذه السياسات، إلا أن ملاحظة تاريخيّة وقراءة آنيّة لممارسات الاستعمار تشير إلى أن ثمّة استهداف خاصّ لبيرزيت وطلبتها لأسباب عدّة تتعلّق بموقعها الجغرافي في وسط الضفّة الغربيّة وبالقرب من مركز السلطة الفلسطينيّة، ودورها التاريخي في إنتاج قيادات وطنيّة ومقاومة، وسياساتها الداخليّة الأرسخ والأثبت بين الجامعات الفلسطينيّة في إجراء انتخابات مجلس الطلبة.
بعد تجربتيّ اعتقال وتحقيق، تؤكّد ليان كايد على هذا الحقد الخاصّ تجاه بيرزيت. أخبر الضابط، أثناء التحقيق معها، متهكّمًا، وفي محاولة تثبيت التهم الموجّهة ضدّها، أن مجرّد كونها طالبة في بيرزيت هو “نصف بند”، فيمكن انطلاقه من هنا وبالتالي لن تكون مهمّته في التحقيق صعبة. “إنتو في بيرزيت يعني بتروحوا على محاضرات عادي؟”، سألها مستنكرًا وساخرًا في إشارة إلى أن جامعة بيرزيت ليست جامعة للتعليم بل لـ”إنتاج الإرهاب والإرهابيّين”.
ليس من الصعب ملاحظة حقد الاستعمار على بيرزيت والحالة النضاليّة التي تخلقها من خلال تعليقات وتصريحات قادته ومسؤوليه من مختلف الأحزاب والتوجّهات. استخدم وزير مالية الاستعمار بتسيلئيل سموتريتش، بيرزيت، الشهر الماضي، في معرض حديثه عن تجميد الميزانيّات المخصصة للتعليم العالي للفلسطينيين في “شرقي القدس”، إذ كان من المفترض أن يدعم الاستعمارُ تعليم طلبة فلسطينيين في جامعات إسرائيلية منها الجامعة العبريّة في القدس، إلا أن سموتريتش قال: “سنحصل على جامعة بيرزيت في الجامعة العبريّة” في إشارة إلى إمكانية خلق تجمّعات طلابية ذات وعي سياسي ونشاط مناهض للاستعمار كما هو الحال في جامعة بيرزيت.
ثمّة استهداف خاصّ لبيرزيت وطلبتها لأسباب عدّة تتعلّق بموقعها الجغرافي في وسط الضفّة الغربيّة وبالقرب من مركز السلطة الفلسطينيّة، ودورها التاريخي في إنتاج قيادات وطنيّة ومقاومة، وسياساتها الداخليّة الأرسخ والأثبت بين الجامعات الفلسطينيّة في إجراء انتخابات مجلس الطلبة
حول التصعيد الجنوني من الاستعمار تجاه طلبة بيرزيت مؤخرًا، تشاركنا أخت أحد الطلبة الذي اعتقل الشهر الماضي، عن لائحة الاتّهام الركيكة التي قدّمت ضدّ أخيها في محاكمته – غير الشرعيّة. تتضمّن اللائحة قيامه بأنشطة روتينيّة، أو حتّى خدماتيّة، لا تمسّ السياسة بشكل مباشر كما تصفها أخت الأسير، وقد يصل بعضها إلى مجرّد حضور أنشطة أو فعاليات “عادية” في الجامعة. وهو الأمر الذي ذكره الطالب عبّود التايه أيضًا، فيكفي أن يحمل الطالب في بيرزيت الحدّ الأدنى من الوعي السياسي ليكون عرضة للاعتقال.
استراتيجيات الجامعة بين الإدانة والتحصين
وثّقت حملة الحقّ في التعليم، التي تأسست في الجامعة منذ الانتفاضة الأولى، الاقتحام والاعتقالات الأخيرة فور وقوعه، كما أنّ من مهامها توفير الدعم القانوني للطلبة المعتقلين من خلال توفير محامٍ مجاني للطلبة المعتقلين من الجامعة، بالإضافة إلى الحشد والمناصرة الدوليين حول انتهاكات الاستعمار للعمليّة التعليميّة في فلسطين؛ كما توضح سندس حمّاد منسّقة الحملة لـ”الكرمل”.
لا يختلف بيان حملة الحقّ في التعليم كثيرًا عن بيان الجامعة الرسمي، فبالإضافة إلى الإدانة وتقديم تفاصيل الحدث، ينتهي بيان الجامعة الرسمي بدعوة “المؤسسات الدولية الحقوقية والأكاديمية لمناصرة الجامعة ومؤسسات التعليم العالي، في سعيها لأداء رسالتها التعليمية والتربوية”. يستخدم بيان حملة الحقّ في التعليم لغة قانونيّة وحقوقيّة أوضح، حيث يرى في فعل الاستعمار “اعتداءً مباشرًا على الحقّ الأساسي في التعليم، الذي تحميه العديد من القوانين والمواثيق الدوليّة”.
في سياق حديثها عن استراتيجيّات الجامعة لمواجهة أحداث شبيهة، تتساءل ليان كايد إن كان من الكافي الإدانة واستخدام استراتيجيات الحشد والمناصرة المذكورة، وبرأيها لا بدّ من التعامل مع هذه الأحداث على أنّها جزء من “العيش تحت الاستعمار، والتعلّم تحت الاستعمار”، وتكون مواجهتها من خلال بناء أسس تعليم تحرري يحصّن الجامعة والطلبة عند وقوع أحداث شبيهة. ترى ليان أنه من المهم عدم الوقوف عند سياسات الإدانة والمناصرة الدوليّة، والذهاب نحو بناء حصانة داخليّة من خلال التعليم التحرري؛ فعلى سبيل المثال تقترح مجموعات وأساتذة في الجامعة في السنوات الأخيرة طرح مساق “الثقافة الأمنيّة”، والذي من خلاله قد يبني الطلبة معرفة تحميهم وتحصّنهم عند أي اعتقالات.
[*] لكلّ كليّة في جامعة بيرزيت “مجلس كليّة” مكوّن من أعضاء هيئة تدريسيّة وإداريين بالإضافة إلى طالبيْن ممثّلين للكليّة يتمّ انتخابهم من طلبة الكليّة.