اختارت المانيا دعم “إسرائيل” كطرف ثالث في قضية الإبادة الجماعية الجارية في محكمة العدل الدولية، حيث تتهم جنوب أفريقيا “إسرائيل” بارتكاب أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ولم يثر هذا القرار توترات دبلوماسية فحسب، بل أدى أيضاً إلى إدانة من جهات غير متوقعة، ولا سيما جمهورية ناميبيا الأفريقية، التي استفزّها دخول قاطرة أوروبا إلى جانب كيان الاحتلال، لتدخل على إثر ذلك كطرف رابع في القضية. هذا التطور كان مستغرباً، فما الذي يدفع تلك البلاد الواقعة في الجنوب الغربي من قارة أفريقيا إلى دخول هذا المعترك؟
بالنسبة للرئاسة الناميبية، الصورة كانت واضحة جداً، نشر الرئيس حاجي جينجوب، بياناً في حسابه على منصة X في الـ13 من الشهر الحالي، يقول إن ناميبيا تدين المانيا بشدة لدعمها “إسرائيل” في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها محكمة العدل الدولية. وأعرب جينجوب عن قلقه العميق إزاء رفض ألمانيا مقاضاة “إسرائيل”، مذكّرًا بالإبادة الجماعية التاريخية التي ارتكبتها ألمانيا في ناميبيا بين عامي 1904 و1908. وأوضح أن “المانيا لا يمكنها المطالبة الالتزام باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، بينما تدعم في الوقت نفسه “إسرائيل” في قضية محكمة العدل الدولية”.
ناميبيا وتاريخ ألمانيا المُظلم
ناميبيا، أرض شاسعة تقع في الشمال الغربي من جنوب أفريقيا، وهي بلد ذو مناظر طبيعية متنوعة، تمتد عبر صحاري ناميب وكالاهاري الشهيرة. ويحد نهر أورانج حدودها الجنوبية، ويفصلها عن جارتها الجنوبية. وبمساحة شاسعة تبلغ نحو 800 الف كيلومتر مربع، تشترك ناميبيا في الحدود مع أنغولا من الشمال وبوتسوانا من الشرق. وتتمتع هذه الأمة، التي كانت مستعمرة ألمانية، بتاريخ غني شكله تنوع شعبها واستغلال مواردها الطبيعية الوفيرة.
تبدأ قصة ناميبيا مع “التدافع على أفريقيا” عام 1885، خلال مؤتمر برلين، حيث قسمت القوى الأوروبية القارة الجنوبية. وشهدت أوائل القرن العشرين مقاومة أفريقية ضد الحكم الألماني، مع تصاعد الصراعات في عام 1904، ولا سيما انتفاضة شعب الهيريرو. الجيش الألماني، بقيادة الجنرال لوثار فون تروثا، رد إبادة مروعة لسكان الهيريرو والناما (1904-1908). أمر إبادة وحشي، دفع بشعب الهيريرو إلى الصحراء حيث واجه الكثيرون الموت من الجوع والجفاف. عانى شعب ناما أيضًا في معسكرات الاعتقال، وتحمل ظروفاً قاسية أدت إلى انتشار الأمراض في ظل سوء التغذية وسوء المعاملة. وتشير التقديرات إلى أن ما يصل إلى 80 ألف من شعب الهيريرو والناما لقوا حتفهم خلال تلك الفترة، ما يجعلها أول إبادة جماعية في القرن العشرين. وواجه الناجون المزيد من الصعوبات، بما في ذلك مصادرة أراضيهم ومواشيهم.
وفي السنوات الأخيرة، بُذلت جهود دبلوماسية لمعالجة هذا الظلم التاريخي. وفي عام 2021، اعترفت برلين بارتكاب جرائم إبادة جماعية في ناميبيا، وتعهدت بتقديم 1.1 مليار يورو سنوياً على مدى 30 عامِاً. ومن المتوقع أن يتم استخدام الأموال في مشاريع التنمية التي تعود بالنفع على هيريرو وناما.
ازدواجية المعايرر الألمانية التي سمحت لها بالدفاع عن حق “إسرائيل” بإبادة الشعب الفلسطيني في غزة، دفعت بناميبيا إلى تبنّي موقف جنوب أفريقيا الداعي إلى مقاضاة كيان الاحتلال بجرم الإبادوة الجماعية.
وقوف ألمانيا إلى جانب “إسرائيل”، في السراء والضراء كما هو واضح للجميع، يُرّد غالباً إلى “شعور ألمانيا بالذنب” تجاه اليهود نتيجة المحرقة التي أرتكبتها ألمانيا النازية بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية. ومنذ عام 1952 حتى اليوم، دفعت الحكومة الألمانية أكثر من 90 مليار دولار لضحايا المحرقة بسبب “المعاناة والخسائر الناجمة عن الاضطهاد على يد النازيين”. وبحسب “أسوشييتد برس”، في عام 2023، تم توزيع مئات ملايين الدولارات من التعويضات لأكثر من 200 ألف ناجٍ في 83 دولة وتخصيص أكثر من 750 مليون دولار على شكل منح لأكثر من 300 وكالة خدمة اجتماعية في جميع أنحاء العالم تقدم خدمات حيوية للناجين من المحرقة، مثل الخدمات المنزلية والرعاية والغذاء والدواء. وتم الاتفاق على استكمال هذه التعويضات أقله حتى عام 2027. ويقيم العديد من هؤلاء المستفيدين في كيان الاحتلال.
أمن “إسرائيل” مصلحة ألمانية عليا
التزام ألمانيا الثابت تجاه “إسرائيل”، لا ينعكس في التعويضات المالية حصرًا. بل له تأثير عميق على وجود ألمانيا نفسها اليوم، حيث أثرت على عملية صنع السياسات وتشكيل نظرتها للعالم. وهو ما يشار إليه بمصطلح “Staatsräson”، أو المصلحة العليا للدولة، الذي يلخص التزام ألمانيا بأمن “إسرائيل” ووجودها. وقد أكدت المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، على هذا المفهوم في خطابها أمام الكنيست عام 2008، مشددة على الطبيعة الدائمة لهذا الالتزام. وقد ردد المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتس، هذا المصطلح أيضاً عدة مرات بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي. كان أبرزها في خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني، في 12 تشرين الأول / أكتوبر الماضي، قائلاً: “في هذه اللحظة، لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا. إلى جانب إسرائيل”…
هذا الالتزام لا ينعكس في الجانب القانوني الدولي حصرًا، وإنما يتعداه إلى العسكري أيضا. فوفقًا لتقرير نشرته مجلة “دير شبيغل” الألمانية، في الـ16 من الشهر الحالي، كشف أن الحكومة تدرس تسليم قذائف مدفعية لـ”إسرائيل” في حربها المستمرة على قطاع غزة. وللمفارقة، وعلى الرغم من دعم برلين المطلق لكيان الاحتلال، أغلبية الشعب الألماني لديه رأي آخر. إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته القناة الثانية الألمانية “ZDF” ونشر في الـ16 من الشهر الحالي، أن 61% من الجمهور الألماني يعتقد أن عمليات الجيش الإسرائيلي في غزة غير مبررة.
الجلاد واحد
أمامنا مشهدان، إبادة جماعية ضد شعب ناميبيا، و”هولوكوست”، والجلاد واحد. جلاد يقول لنا إنه ماضيه لم يتغيّر، على الرغم من محاولته تحسين صورته من خلال التعويضات المالية الكبيرة. جلاد لم يستطع الفكاك من فكرة التفوق على الشعوب الأخرى والفقيرة، فيقف مع الظالم ضد المظلوم. لكن، وبما أن القدر يعمل بأساليبه التي لا نفهمها، أصبحت ناميبيا ميزاناً أخلاقياً لألمانيا.