تمرّدًا على الألم – كلام في الوجدان
أين يلجأ المرء أمام صدمة كبرى كتلك التي تَنفّسَ عنها يومُ السبت، السابع من أكتوبر. السبت الذي يجدر أن يؤرَّخ بمواضع البروج والأفلاك، لا بالأعداد والتاريخ المرقّم. غالبًا أجد نفسي في أحوال كهذه مرتدًّا صوب المعاجم. صوب كهف اللغة وفهرس الأصوات ورزمة الورق التي دوّن فيها أسلافنا قصة الكلام.. حرفًا بحرف، وكلمةً بكلمة. ليس لي دافع علمي بهذا. دوافعي لا تمت للعقلانية بِصِلة، وهي تنبع من توق غريزي صوب مَأمن الإنسان في لحظة كبرى. صوب مكانٍ يألفه ويُجلّه بذات الوقت.. يأنسه ويقدّسه، ويثير روعَه ويُسكِنه ويفعل بك الشيء ونقيضه بنفس اللحظة.
أقرأ باب “الطوفان” في المعجم، فيأخذني المكتوب لأبعد من حدود المعقول: أن شيئًا في هذا اللفظ العتيق كان يشي بما سيحصل، وكأن أحدهم خبّأ خطة الهجوم في المجلد التاسع من “لسان العرب”، وطواها في باب “طَوَفَ”. هذا الباب الذي يبدأ بعبارة “طاف به الخيال: ألمّ به في النوم”. أيُّ فاتحةٍ أبلغ لمعركة سُمّيت بـ”الطوفان”، وطافت بخيالنا في سابعة “القسّام”، ونحن حائرون أمامها إن كنا نيامًا بعد أم لا.
***
عمّا حصل ويحصل
مِن داخل زنزانته، كتب غرامشي عبارة صارت مزاجًا نضاليًا لأزمنة الشِّدة: “تشاؤم العقل.. تفاؤل الإرادة”. لم تولد الفكرة في تلك الزنزانة بالتحديد. لدينا شيءٌ شبيهٌ وأسبق في تراثنا القديم؛ تراثِنا الذي كان يجعل غايةَ الزهد “قَصْرُ الأمل، وإخلاصُ العمل”. وربما لو بحث المرء لوجد لهذه الفكرة حضورًا في ثقافات أخرى: فكرةُ الأمل الضيق والعمل الواسع. هناك فطرية غامضة بهذا المفهوم تكاد تدلّ الناسَ عليه، وكأنه مزروعٌ فيهم. وسواء في صيغة غرامشي أو صيغتنا العربية، فمسيرة المقاومة التي أفضت للسابع من أكتوبر -ذاك اليومِ الذي بألف سنةٍ مما يعدّون- شحنت هذه المقولة بطاقتها القصوى وذهبت بها إلى حيث لم يذهب أحد.
***
منذ بدايات القرن الماضي، بدا أن الرجل الأبيض وجد حلًا نهائيًا للآية 140 من سورة آل عمران: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”. بدا وكأنه وجد ثغرة في حركة التاريخ تسمح له بوقف تداول الأزمنة وبتثبيت سطوته على الفضاء العربي الإسلامي للأبد. ودون استبعاد للسياقات الكبرى التي رافقت هذا التسلط الغاشم ومكّنته، هناك اعتبار تقني مهم لعب دورًا في الأمر، وتحديدًا في أواخر القرن التاسع عشر. لقد ظهر حينها نوع غير مسبوق من التراكم العلمي-الصناعي، متعلّق في المقام الأول بالظاهرة الكهربائية والتي تبلورت نظريتها في تلك الحقبة الزمنية. يُحكى كثيرًا عن “لحظة البارود” وانعطافة التاريخ التي حصلت بفضلها (أو بلعنتها). لكن لسبب ما، لا نتحدّث كثيرًا عن “لحظة الكهرباء” التي صنعت أكثر من البارود بكثير. أخطر ما في هذه اللحظة أن التراكمية التي أطلقتها جعلت مَن يبلغها قبل غيره وكأنه قادر على احتكارها للأبد لأنه يستخدمها لمنع غيره من تحقيق ذات المراكمة. صار الفتك العسكري للرجل الأبيض شيئًا ماحقًا ببركة هذا الاكتشاف، ودخلنا دوامةً صار فيها فارق القوة يغذي نفسه بنفسه ويزداد اتساعًا. قُصفت مشاريع علمية عربية كبرى، ودُمّرت محاولات طموحة لردم الفارق، وحُوِّل العراق على وجه الخصوص درسًا موجعًا لكل من يحاول.
لكن، مَن كان يظنّ أن رجلًا في قطاع غزة قابعًا في مكان تحت الأرض سيمنحنا مثالًا عاليًا على فكّ الاستعصاء، ويُثبِت أن الله لا يمكن أن يعود عن وعده، وأنه لا زال “يداولها” بين الناس. المقاومة هذه المرة هي من وجد الثغرة، لا في حركة التاريخ، بل في سكونه الغاشم. وما فعله “القسّام” صبيحة ذاك السبت كان قفزًا على فارق التراكم، بعد سنوات أمضتها وأمضاها رجالها في “قَصْرِ الأمل وإخلاص العمل”. بعد سنوات من تفاني الإرادة رغم تجهّم العقل. كان الأمر انتصارًا عينيًا لعقل الإنسان على ذكاء الآلة وسطوة المجسات. وسيحتاج ما جرى (عندما ينجلي تمامًا) قراءة تقنية طويلة كي نفهم حقًا شبكة الثغرات التي لمحها القسّاميون، وبأي عقل عبَروها.
***
لم يبدأ نضال المقاومة مع “طوفان الأقصى” بطبيعة الحال، لكن شيئًا في نضال المقاومة انتهى معه. والمسألة هنا – مرة أخرى – تقنية بحتة. ليس الخرْق الذي فعله السابع من أكتوبر كامنًا في التحوّل من الدفاع للهجوم. في تاريخ المقاومة أمثلة عديدة على المبادرة الأولى ضد العدو. الخرْق حصل لأن الفعل الهجومي تعدّى الكتلة الحرجة لنفسه، في مداه وإحصاءاته والعمق الجغرافي الذي بلغه. لقد طفا سؤالٌ صامت في الأيام التالية لما جرى؛ سؤال لا يزال للّحظتنا هذه يحوم في أذهاننا، وسيظل حائمًا لوقت طويل: هل كانت الإطاحة بإسرائيل ممكنة يومها؟ هل كان الدفع بكامل القوة الضاربة القسامية (المقدّرة بأربعين ألفًا) ورفدها بمدٍّ شمالي.. هل كان هذا قادرًا على دفع المعجزة صوب نهايتها القصوى؟ ميلادُ السؤال بذاته، وخروجه من فلك الأمل المستحيل لفضاء الاحتمال الممكن.. هذا ما جعل السابع من أكتوبر نهايةً لمرحلة المقارعة الفدائية ودخولًا لمضمار المواجهة الأخيرة، بغير إنشائيات، وإنما بالحساب البارد.
***
في حساب الزمان الفلسطيني، لم تكن أوسلو مكانًا على الخارطة، بل لحظةً في التاريخ. وللتحديد، كانت لحظةً لتوقف هذا التاريخ. ودخلنا من وقتها في خريف الواقعية. أتت أوسلو مسربلة بوهْم النضج السياسي. لم يكن هذا وهمًا تافهًا أبدًا، بل كان بالغ القوة، وقوته -للمفارقة- كانت مسنودة بضعفٍ هائل وانكسارات عسكرية كبرى. كان وهمًا عاتيًا، ومن رفضوه بوقتها كانوا -وسيظلون- أسلمَ الناس بصيرةً. أتى زمن التسوية ومعه أدبياته، وفي قلبها كانت المقولة التي لم يمل وجوه السلطة الفلسطينية عن تكرارها: “السياسي من يقود البندقية، لا البندقية من يقود السياسي”. كان المآل النهائي لهذا العنوان الفقير أن يخسر السياسي بنادقه جميعًا، وألّا يعود قادرًا حتى على قيادة نفسه. وثبَت أن غياب السلاح لا يعني إلا موت السياسة. ماذا يمثّل أبو مازن وحقبته الرديئة إلا هذا: العدم السياسي تتويجًا للتخلي عن السلاح. هكذا إلى أن ضرب الذراع العسكري لحركة “حماس” ضربته الكبرى وأعاد الأفق عنوةً لمكانه. الآن فقط عادت السياسة. وقد عادت عبْر مفارقة حادّة، لأن إنجازها السياسي الأول كان الإطاحة بأكبر مخطط سياسي في المنطقة: رفع العلم الإسرائيلي في سماء الرياض في سياق كان يُرجى منه تصفية باتّة للقضية، تتحوّل غزة معه هامشًا على الجغرافيا وحبيسة سورٍ مصمتٍ للأبد.
***
لقد انتهت الثنائية الصماء لمقولة السياسي والبندقية. لم يعد الأمر تراتبية قيادية بين السلاح والسياسة (ومَن فيهما يقود من) فنحن الآن أمام حركية مختلفة تصنع فيها البندقية إمكانيةَ السياسة، وتصنع معها -وقبلها- بنادق أكثر وبنادق أفضل. هذه هي آلة الفكر المقاوم؛ الآلة التي لا يستطيع أسرى الواقعية فهمَها ولا تشغيلها، فلا خيالهم يتسع ولا إيمانهم يسمح.