“سنضمن حصول إسرائيل على ما تحتاجه للدفاع عن نفسها وحماية المدنيين من الإرهاب”
(وزير الدفاع الأمريكي، لويد أستين، 7 أكتوبر 2023)
“هل تريدني أن أقول ما أرغبُ بهِ أحيانًا؟ أرغبُ وبصدق أن ينهض أولئك البرابرة، ويلقنوننا درسًا، حتى نتعلّم أن نحترمهم”
(ج.م. كويتزي، في انتظارِ البرابرة، 2004)
عن الفكرة
شنّت المقاومة الفلسطينيّة معركة “الطوفان” عبر “الحدود” ضدّ المستوطنات الصهيونيّة في غلاف غزّة، ومباشرةً فزعت أوروبا الغربيّة والإمبراطوريّة الأميركيّة نحو تحصين “الحقّ الصهيونيّ” في استمرار مشروعه الاستعماريّ الاستيطانيّ؛ قانونيًا وسياسيًا وعسكريًا. ويعتبر تصريح وزير الدفاع الأهم في هذا الصدد، تشديده على حقّ “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، وتبع ذلك إرسال حاملة طائرات بجانب شواطئ فلسطين المحتلّة على البحر المتوسّط لتدارك المعركة الراهنة، وآفاقها نحو حرب أعظم قد تشتعل. وجاء ذلك ضمن مسار غربيّ، وما قد نسمّيه الشمال العالميّ، لتبرير شنّ حرب إباديّة انتقاميّة ضدّ الفلسطينيين على أثر الاهانة العميقة التي حققتها معركة “الطوفان” في الساعاتِ الأولى، من خلال تنظيمٍ وتخطيط لاختراقِ الحدود، والسيطرة على المواقع العسكريّة، وهدمِ المقرّات الأساسيّة التي ساهمت في العديد من العمليّات العسكريّة والعدوان المستمرّ منذُ عام 2006 على أقل تقدير منذُ تسلّم “حماس” السلطة. بذلك استطاعوا، أولًا، تحقيق انتصار نوعيّ ضدّ الأجهزة العسكريّة الصهيونيّة وهزيمتها، وثانيًا تحطيم العقل الصهيونيّ العسكريّ تجاه غزّة.
وكما ذكرَ كويتزي في روايتهِ، تعتبر الهجومات المضادّة للأصلانيين محرّكًا أساسيًّا في صياغةِ وعي جديد عند الغُزاة المستعمرين، والاقتباس عن لسانِ قاضٍ ممثّل عن الإمبراطوريّة الاستيطانيّة التي تتعرّض مستوطناتها الحدوديّة إلى غزوٍ لأحد الشعوب الأصلانيّة ومن يسمِهم بـ”البرابرة”، في نقاشِ مع أحد الجنود الجُدد. وهذا الخطر الأساسيّ الذي يحدق بمشروع الاستعمار الاستيطانيّ؛ أثر المقاومة على المستوطنين، كما أثرها على الأصلانيين. حيثُ أن الأصلانيّ من جهةٍ يعيد بناء ذاته القوميّة من خلال المقاومة العنيفة، في إشاراتٍ عدّة عند فرانز فانون، في المقابل المستوطن يدرك تدريجيًا فشل مشروعه القائم على العنف وعدم القدرة على خلخلةِ المجتمع الفلسطينيّ. نتيجةً لذلك احتشدت القوى الغربيّة جميعها، وراء النخب الصهيونيّة الاستعماريّة؛ بهدفِ ترميم ذاتيّة المستوطن العنيفة، وإعادة بناء الهيراركيّات والعنصريّة والفوقيّة البيضاء، أمام الضربات التي وجهتها “كتائب القسّام”. حيثُ أن التوكيد على حقّ المستوطنين في الدفاع عن أنفسهم، هو إعادة تشكيل مفهوم المستوطن المحارب على التخوم، القائم على التوسّع، واستعادة مهمّة “التحضير” (Mission civilisatrice) باعتبار أن المستوطن هو في ذاتهِ الانسان الأخلاقيّ والحضاريّ، وعليهِ الدفاع عن هذهِ المهمّة في جميع وسائل القوّة والاخضاع والاباد – وكما وصفَ “وزير الدفاع الإسرائيليّ” يؤاف جالانت، مقاتلي “كتائب القسّام” بتليمحٍ إلى الفلسطينيين عمومًا أنهم “حيوانات بشريّة” بالتالي هُم العقبة أمام هذا المشروع المترهّل حاليًا.
عن البدايات التاريخيّة
لنعد إلى عام 1957، حينما خطبَ السفير الإسرائيليّ إلياهو إيلات في بريطانيا، من أمام “الرابطة البرلمانيّة للحوكمة الدوليّة” المنعقدة في لندن، شدّد على حقّ دفاع “الأمم الصغيرة” عن نفسها، مشيرًا إلى أن الهجوم الصهيونيّ الذي شارك في العدوان الثلاثيّ على مصر واحتلال سيناء من قِبل “إسرائيل”، وقد تآمرت دول إمبرياليّة على جمهوريّة صاعدة مع رئيسها جمال عبد الناصر، وهو لم يدم في الحكم خمسة أعوام وقد زعزع ثوابت الاستعمار في المنطقة، اعتبر ذلك ممثّل عن الحكومة الإسرائيليّة دفاعًا عن النفس، وهو ما سمّاه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، ولكن ينبثقُ السؤال أمام من، وخوفًا من ماذا؟ كما أنه لم يقف عند هذا الحدّ، ففي خطابٍ آخر في العام نفسهِ من أمام “المؤتمر السنوي للاتحاد الصهيوني” (شعاريم، 1 أبريل)، أعاد التشديد على أن حقّ “إسرائيل” في الدفاع عن النفس، مكفولٌ قانونيًا بناءً على أحداث عام 1956 حينما قامت بتثبيت هذا بجدارةٍ مع هزيمة الجيش المصريّ واحتلال غزّة وجزء من صحراء سيناء، موضحًا أن عدوان “إسرائيل” على مصر هو الضامن الأساسيّ لأمن الدولة لسنواتٍ قادمة، إذ إنه دفعَ الروح القتاليّة المحاربة عند “الجمهور الإسرائيليّ”، مشيرًا بدقّة إلى أن ممارسة الهجوم والعدوان باعتبارهِ “حقًا للدفاع” يحفّز الجماهير الاستيطانيّة، بل أيضًا يحفّز الجماهير في “العالم الحرّ” أي العالم الغربيّ الأوروبيّ الأبيض.
بالتأكيد، كيف لا تزداد شهيّة المستوطنين في كلّ مكان، حينما تنتصرُ “أممهم الصغرى” في العالم، حيثُ أن إسرائيل ليس لوحدها بل هي ضمن مجموعة دول استعماريّة استيطانيّة ما زالت تكافح لوجودها وضمان مستقبل في كلّ من أفريقيا وآسيا.
في دراسةٍ سابقة أجريتها حول جذور عدوان 1967 منشورة في منصّة “إطار”، تبيّن لي أن الفكرة العسكريّة آنذاك التي جاء بها موشيه ديّان، “سحب المبادرة العسكريّة من يدِ العدوّ”، هي في جذرها تعود أيضًا إلى مسألة “الدفاع عن النفس” ولكن من خلال استمرار الاستيطان والغزو والتوسّع. ففي عقيدة الصهيونيّ والمستعمِر عمومًا أنّه يمتاز أخلاقيًا عن الأصلانيين، المخرّبين، البرابرة، متعطّشي الدماء، المتخلّفين وغير ذلك من العبارات (على الهامش، جميعها تصدّرت وسائل التواصل الاجتماعيّ راهنًا: بيانات مؤسسات ومنظمات مجتمع مدنيّ، بيانات مثقفين، أكاديميين وسياسيين، خصوصًا في أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة) إذ يرى نفسهُ ومجتمعهُ لا يهاجم، فقط يدافع عن نفسهِ، وحتى حينما يهاجم ويقوم باحتلالِ أراضٍ هائلة ومجازر في جيشِ العدوّ، ويدفع الناس إلى ترك بيوتهم وأراضيهم، ثمّ مباشرةً القيام بتطبيق قوانين النهب والسلب، لا تخطئوا هذا أيضًا دفاعًا عن النفسِ في مخيّلة المستوطن المحارب.
وعيه الأخلاقيّ، والفوقيّة إزاء الأعداء البرابرة، هو ما يجعلهُ يستوعب الأحداث والحروب على أنها الدفاع الضروريّ عبر وسائل هجوميّة. هذا هو العقل الصهيونيّ العسكريّ كما تشكّل منذ أواخر عام 1947 مع بدء حرب التطهير العرقيّ على يدِ موشيه ديّان باعتبارهِ المؤسّس، وأصبح متعارفًا عليه في العقيدة العسكريّة بما يسمّى “الحرب الوقائيّة”، ويندرجُ غزو لبنان في هذا السياق الهادف إلى تدمير البنية التحتيّة العسكريّة والسياسيّة لمنظمّة التحرير الفلسطينيّة.
المستعمِر: أنا أغزو، لا بل أدافع عن حقّي
أتذكّر أنّ أريئيل شارون ذكرَ في أحد خطاباته الموجّهة للشعبِ الاستيطانيّ الإسرائيليّ، أن تفكيك المستوطنات في غزّة هو ليسَ خطوةً من أجل السلام، بل خطوة للتمكّن من شنّ الحرب، إذ إن المقولة اعتبرت عمودًا أساسيًا في ظلّ النقاش والنزاع المتصاعد حول خطتهِ لـ”فكّ الارتباط” عن غزّة، أي خروج الجيش والمستوطنين من القطاع. وأعتقد أنّ شارون أدركَ فعلًا خلال تجربتهِ في شنّ الحرب على الشعب الفلسطينيّ ومنظمّة التحرير منذ نشأتها، أنّ الواقع الجغرافيّ الديموغرافيّ في الجنوب لم يعد لصالح المشروع الصهيونيّ، وتجلّى ذلك واضحًا في الانتفاضة الثانية، إذ كانت غزّة منبعًا مهمًا لجميعِ العمليّات الاستشهاديّة ضدّ الجنود والمستوطنين والتي شكّلت صدمةً في العقيدة العسكريّة، حيثُ لأول مرّة اخترقت الجبهة الداخليّة بنشاطاتٍ مسلّحة متفرّقة، زد على ذلك صناعة صواريخ محليّة استطاعت ضرب المستوطنات داخل القطاع. لذلك، خطّة شارون ما بعد الانتفاضة الثانية، هي حصار غزّة، واستمرار الحرب، ضمن جيوسياسيّ مختلف، يقلّل من خسائر المستوطنين التي تضعف الجبهة الداخليّة بشكلٍ قاتل.
أصبحت هذهِ الحروب تدريجيًا عمليّة إعادة انتاج وعي المستوطنين لذواتهم وقدرتهم على الحرب والهدم، وبدون ذلك يفقد المستوطن الوعي والهويّة بنفسه كمستوطن
منذ ذلك الحين، وبالتزامن مع انتصار “حماس” في غزّة، فرضت “إسرائيل” حصارًا شديدًا شاملًا في عام 2006، وقامت بتعزيزهِ حتى عام 2007. وبدأت سلسلة حروب على القطاع، تتأسس على المقولة ذاتها، الهجوم، العدوان، والإبادة، هي دفاع عن النفس، وعن الذاتيّة الاستيطانيّة. حيثُ أنه مع الحرب الوقائيّة، وأيضًا تنفيذ التخطيط الآتي: انسحاب المستوطنين- حصار – قصف جوّي، أصبحَ قطاع غزّة هو امتحان المشروع الصهيونيّ الحاسم، فهو منتبه إلى نموّ خطرٍ وجودي تدريجيّ، لأول مرّة في تاريخ الصراع، وهو تشكيل منظمّة عسكريّة مسلّحة متعددة القدرات داخل فلسطين التاريخيّة ممّا يجعلها تهدّد الوجود الصهيونيّ الاستيطانيّ والعسكريّ، وتضعف الروح الحربيّة، وفي الوقتِ نفسهِ تعيد بناء الذات الأصلانيّة الفلسطينيّة.
اهتمّت “إسرائيل” في جميعِ حروبها على غزّة بأن تندرج ضمن “الدفاع عن النفس” – فكما أشرنا سابقًا هذا يشحذ الهمم الاستيطانيّة – وأن يتخلّلها بشكلٍ دائم المجازر والدمّ والركام، إذ إن هذه المشاهد هي في ذاتها تكشف القوّة العدوانيّة من وراء الحروب المتتالية على غزّة، ولكن هذا ليسَ مهمًا خصوصًا عند غالبيّة المستوطنين أو الداعم الأساسيّ الولايات المتّحدة. بالتالي، أصبحت هذهِ الحروب تدريجيًا عمليّة إعادة انتاج وعي المستوطنين لذواتهم وقدرتهم على الحرب والهدم، وبدون ذلك يفقد المستوطن الوعي والهويّة بنفسه كمستوطن. وعلى هذا الأساس من الممكن أن تصفية وعيهم الاستعماريّ واستعادة إنسانيّتهم، وهذا فعليًا حصلَ عند بعض اليهود الإسرائيليين؛ منهم من أصبحَ جزءًا من منظمّة التحرير، والبعض ساهمَ في الكتابة والتاريخ كجبهة دفاع عن حقّ الشعب الفلسطينيّ في أرضهِ، ومنهم أصبح في قيادة حراكات شعبيّة فلسطينيّة جذريّة، بحيث فقدوا اتصالهم مع مسارات إعادة انتاج الوعي الاستيطانيّ العسكريّ، وبالتالي بإمكانهم أن يروا المشهد كما هو: غزو- استيطان- توسّع.
عن النهاية
في أواخر عام 2008 شنّ الاحتلال عمليّة “الرصاص المصبوب” تحت هدف إنهاء حكم حركة “حماس”، ثمّ أطلق عمليّة أخرى في عام 2012 “عامود السحاب”، وتبعتها “الجرف الصامد” في عام 2014، حتى عام 2021 “حارس الأسوار”، وكما نعلم شنّ العديد من العمليّات لفتراتٍ زمنيّة أقلّ واغتيالاتٍ وقصفًا متبادلًا على أشكال مختلفة، ونتجَ عن هذهِ العمليّات، أولًا، آلاف الشهداء الفلسطينيين، جميعهم بوصفِ الدولة الصهيونيّة والحلفاء الاستعماريين حولَ العالم “دروع بشريّة” وظّفتهم “حماس”، السرديّة ذاتها: حقّ مقدّس للدفاع عن المستوطنين، وضمنيًا مكانتهم الانسانيّة في العقل الاستعماريّ هي أكثر قيمةً لأنّ دولتهم “متقدّمة ديمقراطيّة متحضّرة” أمّا الآخرون فهم جزء من مشهد “بربريّ مستبدّ متخلّف”، وبالتالي لا يملكون أيّة قيمة لذاتهم، وقتلهم هو أضرار جانبيّة.
في المقابل، المقاومة قامت بتطوير ذاتها، في الأسلحة والعتاد والتحالفات، وفي تجديد وتخطيط عقائديّ واستراتيجيّ، ما جعلها متمكّنة من تنفيذ خطّة عسكريّة محكمة، عنوانها “الطوفان”، جاءت بهدفِ تدمير أسس العقل الصهيونيّ العسكريّ، وضربِ مسار إعادة انتاج وعي المستوطنين، خصوصًا مع اقتحامِ المستوطنات وبدء نقل الأسرى، وتدمير مقرّات وقواعد عسكريّة عديدة في غلاف غزّة، ضمن منظومة أخلاقيّة أكّدت عليها قيادة المقاومة العسكريّة والسياسيّة، إلى جانبِ حدوث أخطاء وخروج العمليّة عن نطاق السيطرة، كما وصف ذلك صالح العاروري. في الوقت نفسه، استطاعَ المستعمِر الصهيونيّ جلب حلفائهِ مباشرةً ما بعد الصدمة التي تلقاها ثنائي الدولة، الجنديّ والمستوطن، وبدأ بالتزعزع وربّما شارف على الانهيار. وعلى هذا الأساس جاء التوكيد على حقّ المستوطن المقدّس في الدفاع عن نفسهِ أمام هؤلاء “الحيوانات البشريّة”، كيف؟ من خلال استكمال مجازر، والتطهير العرقي للفلسطينيين، كما الاستثمار الأساسي، وهذا هو طموح المستوطنين بهدف استعادة روحهم الحربيّة مجددًا، وهذهِ دورةُ تاريخ المستوطنين ازاء الأصلانيين، إلى حين كسرها.